نتنياهو يعلن الانتصار ويريد المزيد
جمال زحالقة
لخّص محرر الشؤون العربية في القناة الثانية الإسرائيلية، مراسيم التوقيع على الصفقة الرباعية الإمارتية ـ الإسرائيلية ـ البحرينية ـ الأمريكية في واشنطن بالقول: «اليوم ماتت مبادرة السلام العربية، وهذه المراسيم هي جنازتها». الحقيقة أمرّ من ذلك، إذ لا يتعلّق الأمر بدولتين عربيتين وقعتا اتفاق تطبيع وتحالف مع إسرائيل، بل لأنّ الدول العربية كلها بلا استثناء لم تصدر موقفًا رسميًا ضد الصفقة، وتراوحت مواقف الأنظمة العربية بين التأييد والصمت.
وحتى تكتمل مراسيم الجنازة أعلن ترامب، أنّ هناك خمس دول عربية سوف تعلن قريبًا عن علاقات علنية من إسرائيل. وإذا أضفنا إلى ذلك ما حدث في جامعة الدول العربية، من رفض اتخاذ قرار بشأن التطبيع مع إسرائيل، فإننا أمام انتهاء رسمي لصلاحية المبادرة العربية، التي شكّلت الموقف العربي الرسمي منذ قمة بيروت عام 2002. هذه إحدى النتائج المباشرة للصفقة الإماراتية البحرينية، التي تحظى بدعم رسمي من نصف الدول العربية تقريبًا. لقد أصبح الموقف العربي الرسمي من قضية فلسطين خلافيًا ومشتتًا ومنقسمًا، كما الموقف تجاه كافة القضايا، التي تواجهها الأمة في اليمن وسوريا وليبيا والخليج وغيرها.
لقد أضيف إلى الروزنامة الفلسطينية، المليئة بالمصائب، يوم الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2020، وهو بالتأكيد يوم استثنائي ومحطة فارقة، سيكون لها أثر كبير في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد. هذا لا يتعلّق فقط بالحدث وحده، بل بالأساس بما يكشفه من تحوّلات ويمثلّه من معان ويحمله من تداعيات، بالأخص السقوط غير المدوي، لكن المهول، للنظام الرسمي العربي. كما أنّ لهذا الحدث سياقه الإقليمي والدولي، حيث سيؤدّي بالتأكيد الى تسخين وتأجيج الجبهة الإيرانية، وسيشجّع دولا كثيرة عربية وغير عربية على تقوية علاقاتها مع إسرائيل، وهو يصبّ في مسارات الأممية اليمينية، التي يعد ترامب من أبرز وجوهها. الخسارة العربية من هذه الصفقة مؤكّدة، أما «الربح» الإماراتي فعليه مئة علامة سؤال. ما يجعل الصفقة الإماراتية البحرينية أكثر خطورة، أنها ليست انسجامًا في المواقف وتطبيعًا للعلاقات فحسب، بل هي تحالف استراتيجي قائم، يجري توسيعه وتعميقه وتطويره وإخراجه الى الملأ، ومن يتحالف مع إسرائيل لا يمكن أن يكون مع فلسطين ومع شعبها وحقوقه المشروعة. ما جعل الإمارات تسيّر الاتفاق العلني مع إسرائيل والتحالف معها، على حساب الشعب الفلسطيني وتدمير مبادرة السلام العربية، ينسحب على المستقبل أيضًا. لن تقف الإمارات ولا غيرها من دول التطبيع، ضد إسرائيل مهما فعلت إسرائيل، حفاظًا على «التحالف الاستراتيجي» ضد إيران، وضد تركيا إلى حد ما. بحسابات السياسة والمنطق السليم، فإنّ التحالف مع إسرائيل ضد إيران سيوجّه عاجلًا وآجلًا ضد فلسطين، فالذي يدير دفة هذا التحالف هو إسرائيل لأنّها الأقوى، ولأنّها الابن المدلل للولايات المتحدة، ولأنها ابن العم (من طرف واحد) للإمارات والبحرين ومن سيلحق بهما.
ما طبيعة هذا التحالف؟ هناك من ذهب إلى أن الحديث يجري عن «سلام مقابل حماية». يخطئ من يظن ان إسرائيل ستهب لنجدة الإمارات، أو غيرها إذا تعرضت لهجوم إيراني، فهذا يقع خارج حدود العقيدة الأمنية والاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. لا دليل على أن هذا الأمر سيتغيّر بسبب الاتفاق الجديد، فالعقيدة الأمنية لا تتغيّر تبعًا للمتغيّرات السياسية الداخلية، وتبدّل الحكومات والقادة العسكريين. وحتّى لو وعد نتنياهو ورئيس الموساد بتقديم الحماية لأنظمة وقيادات عربية، فإنّ هذا لم يتحوّل، حتّى الآن، على الأقل، إلى سياسة دولة ومؤسسة أمنية وازنة ونافذة. فمن المستحيل أن تعرّض اسرائيل حياة جندي واحد لحماية عرش بن زايد، أو بن سلمان أو حمد آل خليفة. يبدو أن النظام في الإمارات والبحرين، لم يفهم ان إسرائيل مشغولة بحماية نفسها وليست مستعدة أن تحمي أحدًا. لا حماية لأحد في هذا الاتفاق، فهو يساهم في زيادة التوتر والاستقطاب، وبلورة محور إقليمي معلن ضد إيران، ولا بدّ أن يؤدّي ذلك إلى ردة فعل، خاصة وأنّ إيران لن تقبل أن تكون البحرين والامارات قاعدة إسرائيلية ضدها وقريبًا منها، وستجدها أيضًا فرصة للرد على الهجمات العسكرية الإسرائيلية على التواجد الإيراني في سوريا. هذا سيناريو وارد، خاصة في ظل الانسحاب المتواصل للولايات المتحدة من المنطقة.
سُئل نتنياهو وترامب في البيت الأبيض، ماذا ستقدّم إسرائيل في إطار الاتفاق؟ هذا سؤال صعب حقًّا، ولم تكن إجابة عليه، بل إن ترامب بدأ يعدّد المكاسب الإسرائيلية، وهي بالطبع كثيرة. لقد قصد ترامب التأكيد على الإنجازات الإسرائيلية، ففي ذلك رسالة إلى الرأي العام، إنه اهتم كثيرًا بتأمين تطبيع لعلاقات إسرائيل في المنطقة، وأن الانسحاب الأمريكي المتواصل من الشرق الأوسط ينهي التدخّل العسكري، ويبني «السلم» ويجري بالتزامن مع ضمانات وازنة لإسرائيل، وبلورة تحالف حلفاء أمريكا في منظومة، يمكنها أن تحمي نفسها. هذا بالطبع وهم كبير يسوّقه ترامب، وتقع الإمارات في شباكه. وهي مرّة أخرى تخطئ في الحسابات، وها هي، وبعد فشلها في كل مغامراتها العسكرية، تفشل في حساب مغامرتها السلمية. إذا كان من خطر إيراني على الإمارات فلن تنقذها إسرائيل، وإذا لم يكن من خطر فما الحاجة لإسرائيل؟
صحيح أن النظام الإماراتي يعمل وفق حسابات مصالحه، لكن من قال إن هذه الحسابات صحيحة، حتى بالنسبة للنظام نفسه؟ من قال إن هذا ليس سوى انتفاخ كاذب ومحاولة للعب دور أكبر من الإمارات بكثير؟ كيف يمكن أن نفهم ما كتبه رئيس صحيفة «الاتحاد» الإماراتية في مقاله هذا الأسبوع في صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأنّ الإمارات هي «ركيزة أساسية» في تعزيز السلم الإقليمي والدولي.
جاء توقيت هذه الصفقة هدية لترامب ونتنياهو، المتورطان في أزمات داخلية عويصة، ويديران حملتين انتخابيتين مجهولتي النتائج، في سياق جائحة كورونا، والأوضاع الاقتصادية المتردية. ما من شكّ بأنّ الإمارات معنية بدعم نتنياهو وترامب على حساب منافسيهم، فقد سبق أن لمّح المحقق الخاص روبرت ميلر، في تقريره إلى تورّط قيادات إماراتية في التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية السابقة عام 2016 لصالح دونالد ترامب، ويبدو أنّها مصرّة على مساعدته هذه المرّة أيضًا، عبر الإسراع في توقيع الاتفاق مع إسرائيل وعبر اقتناء أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات. التوقيع على الاتفاق مع إسرائيل يساعد ترامب في قاعدته الإنجيلية الموالية لإسرائيل، والحديث عن صفقة أسلحة كبيرة يسمح له بالإعلان عن خلق عشرات آلاف أماكن العمل الجديدة، وهذا أهم انتخابيًا بالنسبة له. الإمارات من جهتها، تريد أن يبقى ترامب لأنه يتخّذ سياسة أكثر تشدّدًا ضد إيران من منافسه الديمقراطي، وهي تريد أن يبقى نتنياهو للسبب نفسه لأنّه الأكثر «صلابة» ضد إيران. أراد نتنياهو أن يكون الاتفاق إنجازًا وانتصارًا له، وله وحده، ولم يصطحب معه إلى واشنطن أي وزير أو مسؤول كبير، سوى صديقه وحليفه الوحيد في المؤسسة الأمنية يوسي كوهين، رئيس الموساد، لدوره، سرًّا وعلنًا، في صياغة التحالف والاتفاق. لكن سوء الحظ رافق نتنياهو الى واشنطن، حيث اختلط الحفل «البهيج» بأخبار جائحة كورونا، التي وصلت إلى أكثر من خمسة آلاف مصاب يوميًا، ما جعل إسرائيل تحتل المكان الأول في العالم في نسبة المرضى الجدد بالجائحة. وبما أن نتنياهو مشغول بمصيره السياسي وبالانتخابات، فهو مصاب بالإحباط لأن ما يربحه من الاتفاق يخسره بسبب كورونا، وحتى لو ذهبت هذه الخسارة لتقوية حزب «يمينا» القريب سياسيًا منه.
وإذ يخشى نتنياهو انهيار شعبيته بسب الأزمة الصحية والركود الاقتصادي، فهو يسعى جاهدًا إلى تغطية العجز في الشعبية بالموارد العربية. هو يعلن الانتصار ويريد المزيد وبأقرب وقت، قبل الانتخابات الأمريكية وقبل ذهاب ترامب المحتمل، واستباقًا للانتخابات الإسرائيلية، التي بات من المؤكد أنها ستجري العام المقبل. لقد أعلن ترامب أن هناك خمس دول عربية على الطريق للتطبيع، ومن المؤكّد أن هذه الدول تتعرض لضغوط هائلة، وتعرض عليها إغراءات كثيرة للسير على طريق الإمارات والبحرين. وإذ يقوم نتنياهو بمساع محمومة ويعمل على مدار الساعة للكسب قدر الإمكان من وجود ترامب في البيت الأبيض، فإن القيادة الفلسطينية مشغولة جدًّا بأمر واحد وهو انتظار الانتخابات الأمريكية، أملًا أن تأتي بإدارة ديمقراطية تبعد شبح الضم، وتفتح المجال لمفاوضات جديدة. ما جرى حتّى الآن على الساحة الفلسطينية من وحدة الموقف، ووحدة العمل ووحدة الاجتماع، هي خطوات إيجابية لكنّها لا تنهي الانقسام، ولا دليل للأسف على أن هناك مساعي جدية لإنهاء الانقسام، والسبب الرئيسي هو قراءة من باب، الفرج سيأتي من رئيس أمريكي جديد، وليس من توافق على ترتيب البيت الفلسطيني. إن سياسة تمرير الوقت حتى نوفمبر/تشرين الثاني لها عواقب وخيمة، المطلوب استغلال الوقت لبناء الوحدة، فالزمن يعمل ضد من لا يستغلّه لصالحه.
إرسال التعليق