في الذكرى الحادية عشر لثورة يناير د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمنسق العام السابق للجمعية الوطنية للتغيير في أخطر حوار للزمان
- ثورة يناير بدأت بوقفة احتجاجية وتحولت لثورة شعبية كبرى بسبب استبداد النظام وفساده وسعي مبارك لتوريث السلطة لابنه جمال .
- الإخوان كان لديهم رغبة في اقتسام السلطة مع المجلس العسكري وفق لمبدأ لكم الرئاسة ولنا البرلمان ولكنهم نقضوا عهدهم لأسباب يكتنفها الغموض .
- خطاب مرسي في مؤتمر نصرة سوريا أظهر أن الثورة اختطفت بالكامل من جانب تيار الإسلام السياسي .
- ما يجري في مصر حاليا لا يمكن أن يستمر طويلا وعلى النظام الانفتاح على كل القوى السياسية .
على الرغم من مرور إحدى عشر سنة على اندلاع ثورة يناير إلا أن تأثيرات تلك الثورة سوف تظل باقية لسنوات طويلة على مصر والمنطقة كما أن أسرار تلك الثورة لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض ، وفي محاولة لاستكشاف أسرار تلك الثورة ونتائجها كان لنا هذا الحوار مع د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمنسق العام السابق للجمعية الوطنية للتغيير والتي ضمت منذ ولادتها معظم الحركات الشبابية والتي ساهمت لاحقا في إشعال الثورة وفيما يلي نص الحوار :-
تعرضت خلال الفترة الماضية لمحنة الاعتقال ، فما هي ملابسات ماحدث وكيف تم التعامل معك ؟ وما هي الدروس المستفادة من تلك التجربة ؟
تم اعتقالي كما تعلم في حوالي الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الثلاثاء الموافق 24 سبتمبر عام 2019, كنت في طريقي إلى المنزل, عائدا من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, بعد يوم عمل شاق, حين اعترضت طريقي فجأة عربة نزل منها عدة أشخاص يرتدون ملابس مدنية وأشاروا لي بالتوقف, ثم راحوا يطرقون بعنف على باب سيارتي التي كنت أقودها بنفسي ويحاولون فتحه عنوة. خطر لي لأول وهلة أنني أتعرض لعملية سرقة بالإكراه, ومن ثم اتجه تفكيري نحو محاولة الإفلات بأقصى ما أستطيع من سرعة, غير أن الطريق كان شديد الازدحام, ومن ثم لم يكن هناك مجال للمناورة للهرب. نجح المهاجمون, والذين تبين لي بعد قليل أنهم يتبعون جهاز أمن الدولة, في الانقضاض على سيارتي وإنزالي منها بالقوة, كما تبين لي وجود سيارة أخرى تحاصرني من الخلف, ترجل منها على الفور أحد الأفراد وصدرت له أوامر بالتقدم لقيادة سيارتي, ثم جرى دفعي عنوة للولوج إلى السيارة الأمامية, وفي ثوان قليلة وجدت نفسي محشورا بين شخصين مفتولي العضلات, انشغل أحدهم بإخراج هاتفي المحمول من جيبي وأجبرني على فتحه, بينما انهمك الآخر في تثبيت عصابة من القماش الأسود على عيني حتى لا أتمكن من رؤية معالم الطريق الذي ستسلكه القافلة الصغيرة, وتم اقتيادي إلى جهة غير معلومة خمنت عند وصولي لها, استنادا إلى الزمن الذي استغرقته الرحلة والطريق الذي سلكته القافلة, أنه لا بد وأن يكون مبنى جهاز أمن الدولة الكائن بمدينة الشيخ زايد, وهو مبنى يقع على بعد حوالي عشرة كيلومترات من منزلي بمدينة 6 أكتوبر. بعد أن تناوب على استجوابي مجموعة من الضباط وأنا مازلت معصوب العينين, تم إدخالي إلى حجرة صغيرة وقيل لي إن بإمكاني رفع الغمامة وأنا في الداخل لكن على أن أرتديها فورا في كل مرة يطرق فيها الباب كي يهم أحد بالدخول. اكتشفت أن الغرفة نظيفة وخالية تماما, فيما عدا مرتبة صغيرة تتوسطها وعليها بطانية. قضيت ليلتي في هذا المبنى, وأنا بكامل ملابسي التي كنت أرتديها أثناء إلقاء محاضراتي على طلاب قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد!.
في حوالي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي تم اقتيادي معصوب العينيين أيضا في “عربة ترحيلات” إلى مبنى نيابة أمن الدولة الكائنة في منطقة التجمع الخامس (القاهرة الجديدة), وهناك فقط اكتشفت أن التهمة الموجهة إلى هي “نشر أخبار كاذبة ومساعدة جماعة إرهابية على تحقيق أغراضها”. لم تقدم لي خلال جلسة التحقيق التي استمرت لعدة ساعات أي أدلة أو قرائن, باستثناء نسخ من “تغريدات” كنت قد نشرتها في حسابي على موقع “تويتر”, تنتقد بعض السياسات التي ينتهجها النظام الحاكم. في نهاية هذه الجلسة الطويلة, أمر وكيل النيابة بحبسي 15 يوميا قابلة للتجديد على ذمة التحقيق, ثم جرى ترحيلي بعد ذلك إلى سجن ليمان طرة, وهناك وجدت زميلي في نفس الكلية, الدكتور حازم حسني, وبعد قليل لحق بنا الأستاذ خالد داوود, الصحفي بالأهرام والرئيس السابق لحزب الدستور, واكتشفت أنه تم إلقاء القبض عليهما في نفس اليوم, ووجهت إليهما نفس التهم, وزج بنا نحن الثلاثة في زنزانة صغيرة بالعنبر رقم 1.
أما بالنسبة لكيفية التعامل معي, فأشهد أن المعاملة كانت حسنة إجمالا. فباستثناء الطريقة الفجة التي استخدمت في إلقاء القبض علي, والتي لم يكن لها أي ضرورة, حيث كان يكفي استدعائي للنيابة من خلال اتصال تليفوني, وبعض العبارات النابية التي وجهت إلى في اليوم الأول في مبنى جهاز أمن الدولة في منطقة الشيخ زايد, ومن شخص لم أستطع التعرف عليه لأنني كنت معصوب العينين, يمكن القول أن طريقة التعامل معي كانت لائقة ومحترمة. فوكلاء النيابة الذين تولوا مهمة التحقيق معي, وكذلك مأمور وضباط وجنود سجن ليمان طرة, والذين تعاملوا معي أثناء فترة الاعتقال, عاملوني بطريقة راقية وكريمة ولم يحدث خلال هذه الفترة أي نوع من التجاوز. غير أن السجن يظل سجنا في النهاية. فبالإضافة إلى الحرمان من الحرية, وهي أهم وأسمى نعمة كرم بها الخالق مخلوقاته من البشر, لم يسمح لي أنا وزملاء الزنزانة للخروج منها إطلاقا لمدة شهرين, حتى للتريض, كما لم يسمح لنا باستخدام الأموال المودعة في الأمانات للحصول على احتياجاتنا من الطعام والأدوية, وبالتالي لم يكن بإمكاننا أن نحصل من الطعام ومن الأدوية خلال هذه الفترة إلا على ما تقدمه إدارة السجن وهو لا يكفي على الإطلاق. وكنا ننام على سراير من الصاج البارد وبدون مراتب, ولأن سريري كان يقع في الدور الأعلى وكانت الزنزانة تخلو من أي سلم فقد كان علي أن أقوم بحركات عنيفة لأتمكن من الصعود إلى سريري, ما أصابني بخلع في كتفي ظللت أعاني منه لفترة طويلة, حتى بعد الإفراج عني. ومع ذلك, ولأن الزنزانة, على ضيقها وازدحامها, كانت مزودة بالماء البارد والساخن وبتواليت “أفرنجي”, فقد اعتبرنا أنفسنا محظوظين, مقارنة بمعتقلين آخرين كانت ظروفهم أشد قسوة. بعد شهرين, وحين سمح لنا بالخروج للتريض لمدة ساعة يوميا, ولأقاربنا من الدرجة الأولى بزيارتنا, وباستخدام أموالنا المودعة في الأمانات للحصول على احتياجاتنا من الدواء والغذاء, أصبحت الحياة محتملة نسبيا وبدأنا نعتاد عليها.
غير أن احتمال الحياة في مثل هذه الظروف القاسية شيء والإحساس بالظلم شيء آخر. فالواقع أنني لم أستطع أبدا تفهم أو استيعاب الأسباب التي دفعت بالنظام الحاكم لاعتقالي وتوجيه اتهامات مزيفة ومفبركة بالكامل لشخصي الضعيف, خاصة وأن هذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها للاعتقال طوال حياتي التي امتدت لأكثر من سبعين عاما. لم ولن أستطيع أن أنسى حجم الظلم الذي وقع علي, رغم أنه ربما يكون أخف كثيرا مما لحق بآخرين. وهذا ينقلنا إلى الشق الثالث من السؤال, والخاص بالدروس المستفادة من التجربة.
لتجربة الاعتقال والسجن بعدان يصعب فصل أحدهما عن الآخر, الأول: ذاتي, يدفع الإنسان لإعادة التفكير في مسيرة حياته, الشخصية والمهنية والعامة, لعله يعثر في تلافيف الذاكرة عما عسى أن يكون قد ارتكب من أخطاء تدعو للخجل أو الندم, وبالتالي تستوجب المراجعة وتغيير السلوك أو تعديل المسار, والثاني: مجتمعي: يدفع الإنسان للتفكير في الشأن العام وأحوال البلاد, وبالتالي للبحث في الدلالة السياسية والفكرية لواقعة الاعتقال والسجن, والتي تشكل في حد ذاتها تجربة غنية قد تستدعي إعادة التفكير في القناعات الأيديولوجية وفي التوجهات السياسية المستقرة في العقل والضمير. وبوسعي الآن أن أقول بضمير مرتاح, بعد أن توقفت كثيرا مع ذاتي وتأملت مسيرتي الشخصية والمهنية خلال ساعات السجن الطويلة التي كنت أنفرد فيها مع نفسي, وراجعت كل كبيرة وصغيرة في حياتي, أنني لم أعثر مطلقا على ما يحملني على أن أخجل منه أو يستدعي الاعتقال والحبس, ما ولد لدي شعورا عميقا بالظلم لم أستطع أن أتخلص منه حتى الآن, بل وراح يتغلغل عميقا في أغوار النفس. وبوسعي أن أقول أيضا أن تجربة الاعتقال والسجن أتاحت لي فرصة فريدة لرؤية وإدراك ما لم يكن بوسعي أن أراه أو أدركه إلا من خلال خوض هذه التجربة مباشرة. فهناك فرق كبير جدا بين أن يقرأ الإنسان “أدب السجون” وأن يخوض التجربة بنفسه. ولأنها أتاحت لي فرصة ثمينة للتفاعل المباشر مع كل أنواع المعتقلين و المسجنونيين, الجنائيين منهم والسياسيين على السواء, فقد كان بمقدوري أن أرى الوجه الآخر للمجتمع وأن تتكون لدي صورة أكثر وضوحا للأزمة التي يمر بها في مرحلة تطوره الحالية, وذلك على الصعيدين الأخلاقي والفكري معا. وأعتقد أنني لا أتجاوز إن قلت أن المجتمع المصري يمر حاليا بمرحلة تخمر غير مسبوقة في تاريخه وأنه على وشك الدخول في مفترق طرق هام لأن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار على الإطلاق, طال الزمن أم قصر.
أختلف الخبراء حول حقيقة ما حدث في 25 يناير ، فهل ما حدث هو ثورة شعبية أم مؤامرة خارجية من قبل الولايات المتحدة لتفتيت العالم العربي ؟
ما حدث في 25 يناير من عام 2011 كان في البداية وقفة احتجاجية, فجرها شباب مصر الأكثر انفتاحا على العالم واتقانا لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة, ضد صور القمع والتجاوزات الأمنية التي جسدها وكثقها حادث خالد سعيد. غير أن هذه الوقفة الاحتجاجية, والتي كان أقصى ما تطمح لتحقيقه هو إقالة وزير الداخلية, سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية كبرى شاركت فيها معظم الشرائح الاجتماعية والأحزاب والحركات السياسية والتيارات الفكرية في مصر, واستهدفت الإطاحة التامة بالنظام الحاكم ككل, وتأسيس نظام جديد قابل لتحقيق أهدافها في العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. ولا جدال في أن هذه الثورة نجحت في الإطاحة برأس النظام الذي ثارت عليه, حين تمكنت من إجبار مبارك على التنحي, لكنها فشلت في تأسيس نظام جديد قادر على تحقيق الأهداف التي سعت حددتها لنفسها.
لم تندلع ثورة يناير المصرية من فراغ, إذ كانت لها أسيابها العميقة التي تتمحور حول استبداد النظام القائم وفساده, ولم تحدث فجأة, إذ كانت لها إرهاصات سبقت انفجارها بسنوات عدة. فقد ظل مبارك يحكم منفردا لما يقرب من ثلاثين عاما, ولم يكتف بهذه المدة التي تجاوزت فترتي حكم عبد الناصر والسادات معا, وإنما سعى لنقل السلطة من بعده لابنه جمال, والذي كان قد بدأ بالفعل يدير بنفسه أهم ملفات وشئون الدولة, خاصة ما يتعلق منها بالسياسات الداخلية, وذلك من خلال موقعه كعضو في الأمانة العامة للحزب الوطني الحاكم ورئاسته للجنة السياسات, بينما اكتفى مبارك الأب بتوجيهات عامة من موطنه الجديد في منتجع شرم الشيخ. ولأن الرافعة الأساسية لمشروع توريث السلطة في مصر ارتكز, من ناحية, على وزارة الداخلية وأجهزة الأمن الوطني, كما ارتكز, من ناحية أخرى, على مجموعة مختارة من رجال الأعمال الذين أثروا ثراء فاحشا في عهد مبارك, فقد كان من الطبيعي أن تفوح منه رائحة فساد كبير تزكم الأنوف. هكذا وجد الشعب المصري نفسه أمام منعطف خطير: فرئيس الدولة, والذي قاد البلاد لمدة ثلاثين عاما لم يتحقق خلالها أي إنجاز يذكر, أصبح مصابا بالشيخوخة, وهو لم يكتف بحكم البلاد خلال هذه التفرة التي لأكثر مما ينبغي, لكنه كان يعتزم تسليم مقاليد السلطة لابنه الشاب الطموح الذي تحيط به نخبة فاسدة من رجال الأعمال. ولأن نجاح مشروع توريث السلطة كان يعني ببساطة امتداد حكم أسرة مبارك, بكل ما تمثله من فساد واستبداد, لأربعين سنة أخرى قادمة على الأقل, وهو ما لم يكن مقبولا إلا من الشريحة الاجتماعية الضيقة التي ترتبط مصالحها بالنظام الحاكم, فقد باتت الثورة على هذا النظام أمرا حتميا ومسألة وقت, خاصة بعد نجاح الثورة في تونس في الإطاحة بنظام حكم بن علي.
على صعيد آخر, لا يمكن قبول الإدعاء بأن ثورة يناير كانت مؤامرة خارجية دبرتها الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب عدة, أهمها أن مبارك كان حليفا قويا للولايات المتحدة الأمريكية ويدور في فلك سياساتها, فضلا عن أن الثورة المصرية لم تندلع فجأة وإنما سبقتها إرهاصات قادتها حركات سياسية واجتماعية عدة, مثل حركات: “كفاية” و “6 إبريل” و “الحملة المصرية ضد التوريث” و “الجمعية الوطنية للتغيير” وغيرها.
هل استغل الإخوان تلك الثورة للتسلق عليها للوصول إلى السلطة ؟
لم يكن الإخوان بعيدين عن الحركات الاجتماعية والسياسية التي مهدت لثورة 25 يناير, لكنهم لم يكونوا القوة الدافعة أو المفجر الرئيسي لها. فقد ربطتهم بالنظام الحاكم صيغة معقدة تجمع بين الحب والكراهية في الوقت نفسه. فقد سعى نظام مبارك, من ناحية, لاحتوائهم وخلق أرضية لروابط مصلحية مشتركة, بمنحهم مساحة للحركة السياسية والسماح لهم بالتعبير عن نفسهم من داخل السلطة التشريعية (كان لهم حصة في البرلمان قبل الثورة وصلت إلى 88 مقعدا في مجلس الشعب), لكنه كان, من ناحية أخرى, يخشا بأسهم ويقوم بتوجيه ضربات إجهاضية لهم ويشن عليهم حملات قمعية من وقت لآخر. لذلك فعندما اندلعت الحركة الاحتجاجية التي فجرت ثورة يناير لم يكونوا طرفا مشاركا فيها أو داعيا إليها وحرصوا على أن تفصلهم مسافة عنها, لكن حين تبين لهم أن للوقفة الاحتجاجية التي نظمت يوم 25 يناير زخما وتأييدا قويا في الشارع وأنها قادرة على الصمود وتحدي النظام, انضموا بثقلهم إليها اعتبارا من 28 يناير, ومن ثم ساهموا بالقطع في دعمها وفي تمكينها من تحقيق الإنجاز الذي تحقق بإسقاط رأس النظام. لكن ما إن بدأ النظام يعبر عن رغبته في الحوار مع الثور, كان الإخوان أول من لبى الدعوة وهرول إلى الحوار, ولذلك تصدق عليهم بالفعل مقولة “أنهم كانوا آخر من نزل إلى الميدان وأول من خرج منه”. وفي تقديري أنهم كانوا جاهزين وراغبين في اقتسام السلطة مع المجلس العسكري, وفقا لصيغة أو معادلة “لنا الرئاسة ولكم البرلمان”, أي للمجلس العسكري الرئاسة أو السلطة التنفيذية وللإخوان البرلمان أو السلطة التشريعية, بدليل أنهم, أي الإخوان, أعلنوا في البداية التزامهم بعدم خوض الانتخابات الرئاسية, لكنهم نقضوا هذا الالتزام بعد ذلك لأسباب ما يزال يكتنفها بعض الغموض, ما أدى إلى اندلاع صراع مفتوح مع المجلس العسكري.
لكن, للانصاف, لم يكن الإخوان وحدهم هم من ارتكب الأخطاء, فالكل ارتكب أخطاء جسيمة: الثوار والإخوان والمجلس العسكري.
ما هي الأخطاء التي ارتكبها الثوار والتي أدت إلى فشل تلك الثورة في الوصول إلى السلطة ؟
لم يكن للثوار رؤية فكرية موحدة تجمعهم, ولم يكونوا يشكلون حركة سياسية منظمة لها قيادة وهياكل مؤسسية منضبطة, وإنما كانوا فرقا وشيعا كثيرة تعبر عن مجمل التيارات الفكرية والحركات السياسية في المجتمع المصري ككل. ومع ذلك فقد سبق اندلاع الثورة محاولات جادة لتوحيد القوى الراغبة في التغيير كان أهمها “الجمعية الوطنية للتغيير”. فهذه “الجمعية”, والتي ولدت في منزل الدكتور البرادعي في فبراير 2010 وتشرفت شخصيا بشغل موقع المنسق العام لها, كانت هي الهيكل التنظيمي الأقرب للتعبر عن شباب الثورة. ولأنها ضمت منذ ولادتها معظم الحركات الشبابية التي ساهمت لاحقا في إشعال الثورة, كما ضمت في الوقت نفسه معظم الأحزاب والتيارات التي التفت حول الثورة منذ اللحظة الأولى لاندلاعها, فقد كان يمكن لرئيسها الدكتور البرادعي أن يصبح رمز ثورة يناير المصرية والناطق الشرعي باسمها, خاصة وأن الدائرة الضيقة الملتفة حوله, والتي أدارت الجمعية في بداية عهدها, كانت تضم شخصيات وطنية تحظى باحترام كبير, من أمثال: الدكتور محمد غنيم والدكتور عبد الجليل مصطفى والدكتور محمد أبو الغار والدكتور علاء الأسواني وغيرهم. غير أن الدكتور البرادعي لم يستطع للأسف أن يستوعب دلالات اللحظة التي كانت ترشحه لدور تاريخي كبير, ارتكب أخطاء كثيرة قبل الثورة ساعدت على انشقاق الجمعية (واضطرتني شخصيا لتقديم استقالتي من موقع المنسق العام في نهاية ديسمبر 2010, أي قبل اندلاع الثورة بأيام قليلة) واستمر في ارتكاب أخطاء مماثلة طوال الفترة الممتدة منذ ثورة يناير وحتى ما بعد اندلاع أحداث 30 يونيو واختياره نائبا لرئيس الجمهورية. لذلك أعتقد أن البرادعي وجماعة الإخوان لعبا دورا لا يمكن التغاضي عنه في إجهاض الثورة المصرية, كل لأسباب ودوافع ومنطلقات مختلفة.
يقال أن المجلس العسكري لم يكن جادا في تسليم السلطة إلى المدنيين وأنه كان يسعى فقط لكشف الإخوان أمام الرأي العام حتى يستعيد السلطة مرة أخرى؟
أعتقد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة, والذي آلت إليه قيادة الدولة في مرحلة ما بعد تنحي مبارك في 11 فبراير 2011, لعب الدور الأكثر حاسما في إجهاض الثورة. ففي تقديري أنه كان ضد مشروع توريث السلطة لجمال مبارك, لكنه لم يكن مع ثورة تستهدف إحداث تغييرات جذرية في المجتمع والتأسيس لنظام سياسي جديد. وليست هذه وجهة نظر جديدة أتبناها بأثر رجعي, بعد إجهاض الثورة, لكنها كانت وجهة نظري منذ البداية, وقد عبرت عنها بوضوح تام في زاويتي اليومية “وجهة نظر” التي كنت أكتبها في صحيفة المصري اليوم خلال تلك الفترة, ففي يوم 19/12/ 2011 كتبت في هذه الزاوية مقالا بعنوان “ضد التوريث وليس مع الثورة”, وكنت أقصد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالطبع, وأظنه عنوانا يتحدث عن نفسه!!. لكن هل كان المجلس العسكري يتصرف في ذلك الوقت وفق خطة محددة هدفها كشف الإخوان أمام الرأي العام حتى يستعيد السلطة بعد ذلك؟ أشك كثيرا. ففي اعتقادي أن المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي كان في حالة ارتباك في ذلك ولم يكن لديه خطة محددة لكيفية التعامل مع الثورة, وكان على استعداد وقتها لاقتسام السلطة مع الإخوان, لكن الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها الإخوان سهلت طريق المجلس للانفراد بالسلطة لاحقا. شخص واحد في هذا المجلس, هو اللواء عبد الفتاح السيسي رئيس المخابرات العسكرية في ذلك الوقت, كان يعرف ما يريد, وهو نفس الشخص الذي اختاره الدكتور محمد مرسي بنفسه ليصبح وزيرا للدفاع, خلفا للمشير طنطاوي الذي أقاله مع الفريق سامي عنان رئيس الأركان!!, متخطيا بذلك قيادات كثيرة كانت أعلى رتبة من اللواء السيسي.
هل ترى أن الإخوان أخطأوا بقبول الترشح لرئاسة الجمهورية؟
بالتأكيد, وكان خطؤهم في هذه المرة جسيما, خاصة وأنهم كانوا قد ألزموا أنفسهم من قبل بعدم خوض معركة الرئاسة, وعبروا عن ذلك في تصريحات علنية منشورة, دون أن يجبرهم أحد على ذلك. لذا, فحين قرروا الترشح تركوا انطباعا لدى عامة الشعب ليس فقط بأنهم لا يحترمون تعهداتهم, ولكن أيضا بأنهم يخططون للسيطرة على كل مفاصل السلطة في مصر في المرحلة المقبلة, ما أثار الخوف والهلع لدى شرائح اجتماعية عديدة في مصر, خاصة لدى المسيحيين, وساهم في اتساع فجوة عدم الثقة بينهم وبين كل القوى السياسية الأخرى, بمن فيهم شركاء الثورة. فبعد قرار الإخوان خوض معركة الانتخابات الرئاسية, تأكد لدى العديد من المتابعين للحالة السياسية في مصر أن الإخوان لم يعودوا ينظرون إلى أنفسهم كفصيل فكري, ضمن فصائل أخرى عديدة, وبالتالي يسعى لبناء نظام سياسي يتسع للجميع وتشارك فيه كل التيارات الفكرية والقوى السياسية الأخرى, وإنما كفصيل يمثل الشعب المصري كله, وبالتالي يحق له بناء نظام سياسي على مقاسه وحده واستنادا إلى مشروعه الفكري والمجتمعي الخاص, وهو ما تأكد بعد فوز الإخوان في الانتخابات الرئاسية. فبهذا الفوز, خاصة وأنه جاء بعد نجاحهم من قبل في الحصول على أكثرية المقاعد النيابية, تصور الإخوان أن الشعب قال كلمته الأخيرة وأصبح يعتبرهم منذ الآن فصاعدا متحدثين رسميين شرعيين ووحيدين باسم ثورة يناير, متناسين أنهم لم يحصلوا في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية إلا على أقل من ربع عدد المشاركين في التصويت, وهو ما يمثل وزنهم الفعلي والحقيقي على الساحة السياسية المصرية.
غير أنه يتعين التنبيه هنا إلى أن قرار الاخوان بالترشح للانتخابات الرئاسية لم يكن الخطأ الوحيد الذي ارتكبوه في مرحلة ما بعد ثورة يناير, فالواقع أن هذا الخطأ كان تتويجا لسلسلة سابقة من الأخطاء, بدأت تظهر بوضوح قبيل وعقب تنحي مبارك مباشرة, في 11فبراير, ووصلت ذروتها إبان الاستفتاء على التعديلات الدستور في مارس. وفي تقديري أن مشاركة الإخوان في الحملة الإعلامية التي صاحبت هذا الاستفتاء, وعرفت فيما بعد باسم “غزوة الصناديق” كان علامة مبكرة لا تخطئها العين على أن الإخوان قرروا التخلي عن صناع الثورة وبدأ ينسقون مع الفصائل الإسلامية الأخرى من أجل التأسيس لنظام سياسي يعبر عن مشروعهم الفكري وليس عن أحلام الشباب الذين فجروا الثورة.
هل ترى أن ما حدث في 30 يونيو ثورة أم انقلاب ؟
لست من المولعين بالتوقف كثيرا عند المصطلحات التي عادة ما تثير الاختلاف, خاصة بين الأكاديميين وأفضل, بدلا من ذلك, التوقف عند مضامين الأحداث ودلالاتها. وفي هذا السياق, لا شك عندي في أن ما جرى يوم 30 يونيو كان انتفاضة شعبية شاركت فيها كل القوى السياسية الرافضة لحكم الإخوان, بما في ذلك أجهزة الدولة العميقة وبقايا نظام مبارك الذي كان يتوق للثأر مما جرى في 25 يناير. تجدر الإشارة هنا إلى أن الدكتور مرسي حضر خلال النصف الأول من شهر يونيو عام 2013, أي قبل حوالي أسبوعين من 30 يونيو مؤتمرا شعبيا حاشدا في ستاد القاهرة, دعت إليه القوى السلفية في مصر, وأطلق عليه مؤتمر “نصرة سورية”. وفي تقديري أن كل من استمع إلى الكلمات التي ألقيت في هذا المؤتمر, بما في ذلك خطاب رئيس الدولة نفسه, أدرك بكل وضوح أن الثورة قد اختطفت بالكامل من جانب تيار الإسلام السياسي, وأنه لم يعد هناك أي فرق بين الإخوان والسلفيين والأصوليين الراديكاليين, فكلهم يتحدث لغة واحدة ويتحدث عن أهمية فتح باب الجهاد للقتال في سوريا الي جانب القوى التي تريد إسقاط نظام بشار الأسد. ولا يخالجني أدنى شك في أن تلك اللحظة كانت فاصلة في مسار الأحداث, لأن قوى الإسلام السياسي أصبحت تقف في جانب وكل القوى السياسية الأخرى أصبحت تقف في جانب آخر. وكانت تلك هي الأجواء التي انطلقت فيها أحداث 30 يونيو وشارك فيها الملايين الذين توحدوا حول هدف واحد وهو المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة هدفها الأساسي انتخاب رئيس جديد للبلاد. كما لا يخالجني أدنى شك في أن قوى الدولة العميقة, وفي مقدمتها أجهزة الأمن وبقايا نظام مبارك, ركبت هذه الموجة لا بهدف تصحيح مسار ثورة يوليو وإنما بهدف الانتقام من هذه الثورة, وهو ما لم يتبين بوضوح وينكشف إلا في مرحلة لاحقة. ولو كان الدكتور مرسي, يرحمه الله, قد أدرك دلالة وعمق ما كان يدور في مصر في تلك اللحظة لقبل إجراء انتخابات رئاسية مبكرة, ولتغير مسار الأحداث.
هل تتوقع اندلاع ثورة أخرى في ظل تراجع شعبية السيسي وتفاقم الأزمة الإقتصادية ؟
ليس بمقدور أحد, سواء في مصر أو في أي مكان آخر في العالم, توقع متى تندلع الثورات أو الهبات الاجتماعية. ومع ذلك يمكن القول أن ما يجري في مصر حاليا غير قابل للاستمرار على المدى الطويل لأسباب عدة, أهمها:
أولا: الافتقار إلى رؤية فكرية تنبثق عنها السياسات المتبعة في مختلف المجالات, سواء على صعيد السياسات الداخلية أو على صعيد السياسات الخارجية, والاعتماد على الأجهزة الأمنية وحدها في إدارة كل شئون الدولة, ما يؤدي في النهاية إلى هيمنة رجل واحد غير قابل للمراجعة أو المحاسبة على عملية صنع القرار بالكامل.
ثانيا: خنق المجال العام بالكامل, من خلال سيطرة النظام الحاكم على كافة وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية, وبالتالي عدم إتاحة الفرصة لأي وجهة نظر مختلفة مع السياسات المتبعة أو معارضة لها في التعبير عن نفسها.
ثالثا: اكتظاظ السجون بعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين من مختلف التوجهات والتيارات, وليس فقط من تيار الإسلام السياسي الذي يصورة النظام الحاكم باعتباره خصمه الأساسي والوعاء الحاضن للعمليات الإرهابية والأفكار المتطرفة. وحين يكون الليبراليون والقوميون واليساريون على اختلاف أنواعهم داخل السجون, من الصعب تحديد القاعدة الشعبية التي يستند إليها النظام على الصعيدين الفكري والسياسي.
رابعا: عدم وجود أي مؤسسات رقابية تستطيع محاسبة السلطة التنفيذية, لا على الصعيد السياسي ممثلا في السلطة التشريعية, ولا على الصعيد القانوني, ممثلا في السلطة التشريعية, ولا حتى على صعيد الرأي العام, ممثلا في وسائل الإعلام.
صحيح أن النظام الحاكم تمكن من إنجاز العديد من المشروعات, خاصة في مجال البنية التحتية والمدن الجديدة, لكن هذه الانجازات تمت من خلال اقتراض كثيف من الداخل والخارج, يرى البعض أنه تجاوز الحدود الآمنة, الأمر الذي أدى إلى تراكم الديون بشكل خطر, كما أدى في الوقت نفسه إلى ارتفاع تكاليف المعيشة بطريقة أرهقت كل شرائح الطبقة الفقيرة ومععظم شرائح الطبقة المتوسطة. لكن الأخطر من ذلك أن معظم المشروعات التي أنجزت تمت في غياب دراسات علمية للجدوى الاقتصادية وأيضا في غياب رؤية متفق عليها لللأولويات. ولأن الخبراء والفنيين المستقلين ليسوا في وضع يمكنهم من التعبير عن آرائهم في فوائد وعيوب هذه المشروعات, يمكن القول أن المستقبل قد يكون مليئا بالمفاجآت. ولا يستطيع أحد, في ظل أجواء الخوف السائدة حاليا, أن يحدد شكل ونوعية المفاجآت المحتملة والمتوقعة!
بقى أن أقول أنني لا أتمنى اندلاع ثورة جديدة, لأنها لن تكون ثورة حقيقية تملك رؤية واضحة للتغيير وإنما غضبة جياع سوف تدمر وتهدم أكثر من أن تبني وتعمر. لذا نتمنى أن يأتي التغيير من داخل النظام بالانفتاح على كل القوى السياسية التي يفترض أنهم شركاء الوطن.
حاوره/ مصطفى عمارة
إرسال التعليق