تسوية مشكلة الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية هل هي ممكنة الآن؟

تسوية مشكلة الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية هل هي ممكنة الآن؟

 

هناك تحولان هامان يوجهان تصاعد الأزمة الاسرائيلية اللبنانية الاخيرة على الحدود البحرية في المناطق الاقتصادية المتنازع حولها بين لبنان وإسرائيل، يتعلق الأول بتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية، يوم الثلاثاء الماضي حول رغبة الاتحاد الأوروبي تعزيز تعاونه مع إسرائيل في مجال الطاقة، بينما يرتبط الثاني بتفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية، دون وجود أفق داخلي للحل. وأشعل وصول سفينة لاستخراج الغاز من المنطقة الاقتصادية المتنازع حولها بين البلدين، مطلع الشهر الجاري، فتيل الأزمة المتجددة بينهما، وعاد الحديث عن المساعي لاحياء مفاوضات ترسيم الحدود، التي انطلقت في شهر تشرين الأول من العام ٢٠٢٠، برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أميركية، وتوقفت بعد خمس جولات تفاوضية في آيار من العام الماضي. وتحركت لبنان نحو المفاوضات مع إسرائيل عام ٢٠٢٠ بعد انفجار مرفئ بيروت، بينما جاء التحرك الحالي لاحيائها في ظل تطورات الأزمة الاقتصادية والسياسية اللبنانية المتفاقمة، وتصاعد الحديث عن إمكانية انخراط إسرائيل، من بين دول أخرى، في امداد أوروبا بمصادر الطاقة، لتعويض النقص فيها، في ظل تطورات الحرب الروسية الأوكرانية.

ويعد هذا التحرك الاسرائيلي الأخير في البحر المتوسط لاستخراج الغاز، المحرك للمياة الراكدة ولجمود المفاوضات التي توقفت العام الماضي دون تحقيق أي نتيجة، في ظل عدد من الاعتبارات على رأسها تصاعد تبعات استمرار الحرب الروسية الأوكرانية على أوروبا بشكل أساسي وعلى العالم بشكل عام، وارتفاع حدة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، واستعار حرب الظل بين إسرائيل وإيران، ومساندة الدول الغربية للموقف الاسرائيلي على حساب الايراني، الذي انعكس في قرار وكالة الطاقة الذرية الأخير. وليس من المرجح أن يؤدي تصاعد الأزمة اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة الخاصة بالحدود البحرية إلى وصولها حد التصعيد العسكري بين البلدين، رغم تصريحات حزب الله النارية الأخيرة، لكنه قد يكون فرصة لتحقيق تقدم في المفاوضات بين البلدين حول ترسيم الحدود البحرية. ويبدو أن لبنان يسعى لاستثمار الحاجة الغربية لاقحام إسرائيل في معركتها مع روسيا فيما يخص الجزء الخاص بالطاقة، للضغط على الولايات المتحدة لتحصيل مكاسب إقتصادية سواء على صعيد رفع العقوبات الأميركية عن كيانات وشخصيات لبنانية وتحسين شروط التفاهمات مع صندوق النقد الدولي، او على صعيد مفاوضات الحدود البحرية مع إسرائيل. ويعاني لبنان من عدم ترسيم حدوده البرية والبحرية مع إسرائيل، مما يضع مساحات بحيرة واسعة ضمن فئة “أراضٍ متنازع عليها”، الأمر الذي يعيق الاستفادة من موارده للطاقة على وجوه الخصوص. وكشفت العديد من التقارير المتخصصة أن لبنان قد يصبح الدولة العربية الثالثة من حيث إنتاج الغاز، إذا تجاوز عقبات النزاع الحدودي مع إسرائيل.

بدأت بوادر الأزمة الحالية بالظهور في الخامس من الشهر الجاري عندما وصلت السفينة التابعة لشركة انرجين اليونانية، التي تحمل منصة عائمة لانتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه، إلى “حقل كاريش” الواقع في المياة الاقتصادية المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان، الأمر الذي يسمح باستخراج الغاز منه خلال الثلاثة أشهر القادمة. وتقع مسؤولية الحفاظ على أمن السفينة اليونانية، والواقع مقرها في لندن، على إسرائيل، التي أعلنت أن أي اعتداء على السفينة يعد بمثابة إعلان حرب. وجاء موقف إسرائيل رداً على التصريحات التي أطلقها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، بعد خمسة أيام من وصول السفينة اليونانية إلى الحقل المتنازع عليه، حيث اعتبر أن قوات الحزب قادرة على منع إسرائيل من استخراج الغاز، ودعا السفينة للمغادرة.

الا أن هذه الازمة لم تبدأ مع وصول السفينة اليونانية البريطانية إلى المنطقة، والتي غادرت من ميناء سنغافورة الشهر الماضي، وإنما قبل ذلك بكثير، حيث أكدت وزارة الطاقة الاسرائيلية أنه تم الانتهاء من أعمال الحفر في حقل “كاريش”، قبل عدة أشهر، معتبرة أن وصول السفينة الآن يأتي لربط الحقل عبر أنابيب في المنصة لتصل إلى سواحل مدينة حيفا، التي تبعد ٨٠ كيلو متر عن الحقل. وتعود بدايات هذا المشروع إلى نهاية العام ٢٠١٦ عندما تم الاتفاق على عمل “إنرجين” في حقل “كاريش” وحقل آخر، ووقّعت الشركة عقدًا تمويليًا في العام ٢٠١٨ بأكثر من مليار دولار لتطوير الحقلين. وفي العام التالي بدأت الشركة بالتنقيب عن الغاز في “كاريش”، حيث تأكد وجود ٦٧ مليار قدم مكعب، فوقعت الشركة عقداً لربط الأنابيب الإسرائيلية بالحقل، وأعلنت “إنرجين” أن تقييمها لاحتياطيات حقل “كاريش” كشف عن وجود ١.٢ تريليون قدم مكعب من موارد الغاز الطبيعي القابلة للاستخراج، بالإضافة إلى ٣٤ مليون برميل من النفط الخفيف، بزيادة كبيرة عن تقديراتها الأولية.

إن وصول السفينة اليونانية إلى حقل “كاريش” مطلع هذا الشهر ما هو الا استكمالاً لمشروع في مراحله النهائية، فوقعت إسرائيل في شهر آذار الماضي إتفاقية مع شركة كهرباء إسرائيل للبدء باستلام الغاز من الحقل لتغذية سوق الكهرباء الإسرائيلية ابتداءً من شهر آب المقبل، كما وقعت إسرائيل مع الشركة المصرية للغاز الطبيعي مذكرة تفاهم لشراء وبيع الغاز لمدة عشر سنوات من الحقل أيضاً. وقد يفسر ذلك السبب وراء رفض الرئيس اللبناني تعديل المرسوم رقم ٦٤٣٣، الذي يعدل حدود المناطق المتنازع عليها، لتشمل حقل “كاريش”. وتقع بين لبنان وإسرائيل مناطق متنازع عليها تبلغ مساحتها ٨٦٠ كيلو متر مربع، وذلك حسب الخرائط التى أودعها لبنان لدى الأمم المتحدة في العام ٢٠١١. وتراجعت لبنان بعد ذلك عن تلك المساحة خلال المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، وكانت السبب في توقفها، بعدما طالبت بزيادتها مضيفة ١٤٣٠ كيلو متر مربع أخرى للمناطق السابقة، وفق خرائط جديدة قدمها الجيش اللبناني. ومنذ ذلك الوقت، أبدت لبنان رغبتها بالتفاوض على أساس الخط ٢٩، الذي يضم حقل “كاريش”، بدل الخط ٢٣، وباتت المساحة التي تطرحها لبنان كمناطق متنازع عليها ٢٢٩٠ كيلو متر مربع.

ويبدو أن الأزمة التي افتعلتها لبنان الآن لا تتعلق بحقل “كاريش” بحد ذاته، وإنما برغبتها لاحياء المفاوضات الحدودية المائية مع إسرائيل، لاستثمار المعطيات السياسية الدولية الآنية، والتي ترتبط بالحرب الروسية الأوكرانية وتأمين موارد الطاقة الغربية. فأبلغ المسؤولون اللبنانيون، خلال الأسبوع الجاري، آموس هوكشتاين الوسيط الأميركي لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، برغبتهم باستئناف المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، وتمسكهم بالوساطة الأميركية، وتطلعهم لرفع الضغوط عن الشركات الأجنبية للتنقيب في المناطق الاقتصادية البحرية اللبنانية. وجاء وصف نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني لتحركات إسرائيل الأخيرة في حقل “كاريش” بأنها بمثابة “اعتداء”، دون ذكر حقل “كاريش” بالاسم. كما تصاعد الحديث عن مطالب لبنانية تكتفي بالحصول على المنطقة التي تقع شمال الخط ٢٣، بما فيها حقل قانا كاملاً، التي تطالب إسرائيل بـ ٢٠٪؜ منه، وكذلك تلميح بعد التصريحات اللبنانية برفع مطالبات لبنان بمساحة إضافية تصل إلى ١٢٠٠ كيلو متر مربع، وليس إلى ١٤٣٠ كيلو متر مربع، بما لا يتضمن حقل “كاريش”، كمدخل للمساومة المتوقعة في المفاوضات القادمة.

نجحت إسرائيل في حسم أمرها، وأصبحت جزءاً من مشروع الغرب الاقتصادي، وسوق الطاقة، مستثمرة في الأزمة الغربية مع روسيا. فأعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية عن توقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى أوروبا بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل امس الاربعاء، في إطار توجه عام من قبل الاتحاد الأوروبي لتوقيع صفقات لتصدير الغاز إلى القارة الأوروبية، مع عدد من الدول من بينها إسرائيل. كما أكدت وزارة الطاقة الإسرائيلية قبل ذلك بأنها بصدد بيع الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، والذي سيتم نقله عبر خط أنابيب إلى مصر لتسييله، رغم أن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، وتسييله في مصنعين لاسالة الغاز، ثم إعادة شحنه إلى أوروبا باهظ الثمن وليس بالخيار الأمثل، الا أن الأوروبيين مستعدون للتغاضي عن ذلك في سبيل الخروج من أزمتهم مع روسيا. يأتي ذلك بالتزامن مع الإعلان عن نية أوروبا تقليص شحنات الغاز الطبيعي الروسي الذي يمرعبر خط أنابيب “نورد ستريم”، الذي يمر من تحت بحر البلطيق إلى أوروبا، بنحو ٤٠ ٪؜ خلال العام الحالي.

تواجه قضية حسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل معضلات تتعلق بطبيعة العلاقة العدائية بين البلدين، والتي توصف بأنها “حالة حرب”، وعدم حسم الصراع حول الحدود البرية، والتي عادة ما تكون موجهاً رئيس في حسم الحدود البحرية. ولتجاوز تلك المشكلة اعتمدت إسرائيل في تحديد حقوقها في المياة الاقتصادية في المنطقة على اتفاقيات ثنائية وقعت بين مصر وقبرص في العام ٢٠٠٣، وبين لبنان وقبرص في العام ٢٠٠٧، فوقعت بناء على ذلك اتفاقاً ثنائياً بينها وبين قبرص في العام ٢٠١٠. فهل تفتح قضية حسم الحدود المائية بين البلدين اليوم، ورغبة لبنان الملحة لحسمها القضية الأشمل التي تتعلق بطبيعة العلاقة السياسية بين البلدين؟

د/ سنية الحسيني

إرسال التعليق