زيارة بايدن إلى المنطقة في ظل تفاقم أزمات الحرب

زيارة بايدن إلى المنطقة في ظل تفاقم أزمات الحرب

د. سنية الحسيني

يمر الاقتصاد العالمي، اليوم، بأسوأ أزمة مالية منذ عامي ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وأعقد أزمة طاقة منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي. ورجح مارك ميلي رئيس الأركان الأميركي أن احتمالات نشوب صراع دولي كبير بين القوى العظمى النووية آخذ بالازدياد. وحذر أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته لمؤتمر قمة السبع الكبار الأسبوع الماضي من خطر مجاعة عالمية غير مسبوق. إنها نتائج وقراءة لمستقبل الحرب المشتعلة حالياً في القارة الأوروبية، والتي تفصح المؤشرات أنها ماضية دون هوادة. فإلى أين ستتجه الأمور خلال الأيام القليلة القادمة؟

أدت الحرب الروسية الأوكرانية وحرب الطاقة المشتعلة بين روسيا والغرب إلى ارتفاع أسعار موارد الطاقة لمستويات غير معهودة، وأثر ذلك على ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدماتية الاخرى. كما تفاقمت مشكلة الغذاء خلال هذه الحرب، حيث تمنع روسيا السفن الأوكرانية المحملة بالحبوب من التحرك من الموانئ الأوكرانية للوصول إلى العالم، والذي يتسبب يوماً بعد يوم بنقص ملحوظ في الغذاء. وسجلت ألمانيا بداية من شهر مايو الماضي عجزا تجارياً لأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود أي منذ العام ١٩٩١، حيث تجاوزت فيه الواردات صادراتها. واعتبر روبرت هابيك وزير الطاقة الألماني أن الغاز بات من بين السلع النادرة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي. وبلغ مستوى التضخم في الولايات المتحدة ٨.٦ ٪؜ وهو الأعلى خلال العقود الأربعة الماضية، مصحوباً بارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية والكماليات، وهو الذي يواجه بتزايد الغضب الشعبي في الولايات المتحدة وارتفعت أصوات المعارضة في ظل حرب استنزاف باتت حدود نهايتها غير معروفة.

يأتي ذلك في ظل معطيات كارثية عبرت عنها آن ليندي وزيرة الخارجية السويدية صراحة بأن حاجة أوكرانيا الى الأسلحة في ازدياد، وفسرت ذلك بشكل أكثر وضوحاً سامانثا باور رئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، عندما أكدت الأسبوع الماضي أن الدعم الدولي الحالي لا يكفي لتغطية الانفاق العسكري الشهري لأوكرانيا، في ظل إنفاق الحكومة الأوكرانية ما بين ٥ الى ٦ مليارات دولار على الحرب شهرياً. ويتفاقم الأمر أكثر عندما نراجع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي جاءت أيضاً الأسبوع الماضي، في القمة الإقليمية التي شارك فيها في تركمستان، بأنه ليس في عجلة من أمره لإنهاء الحرب.

ورغم ذلك تشير الشواهد أن كل هذه التبعات الناتجة عن الحرب لم تؤد لمراجعة أميركية أوروبية لامتصاص الأزمة، بل تشير مواقف تلك الدول إلى عكس ذلك. فقد أكدت قمة الناتو السنوية التي عقدت في مدريد الأسبوع الماضي على استمرار الموقف الغربي المتحد والمتصدي لروسيا، واعتبر قادة الناتو روسيا خصمهم الأساسي، كما اعلنوا لأول مرة صراحة أن الصين تمثل تحدياً استراتيجياً، تماشياً مع الرؤية الأميركية. وأكد بايدن في كلمة له في ختام قمة الناتو على أن منع روسيا من الانتصار قد يحدث إرتفاعاً جديداً في أسعار النفط. كما اعتبر ينس يتولتنبرغ الأمين العام للحلف أنه سيتم نشر قوات جديدة للحلف في ثماني دول من ناحيته الشرقيه. وأكد بايدن أن بلاده ستنشر قوات حماية وكتيبة دعم ميداني في بولندا، وهي أول قوات أميركية تتمركز بشكل دائم في الجناح الشرقي لحلف الناتو.

يأتي ذلك في ظل تصريحات جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للإدارة الأميركية الحالية على هامش اجتماعات السبع الكبار، التي عقدت في ألمانيا، بعد قمة الناتو مباشرة، أن هدف الحلفاء الغربيين مساعدة القوات الأوكرانية تحقيق انتصارات واضحة في الحرب قبل دخول فصل الشتاء، لأن استمرار الحرب ليس من مصلحة أحد، الأمر الذي يعني أننا أمام صيف شديد الحرارة. وينسجم ذلك تماماً مع ما تم الكشف عنه في قمة الناتو وكذلك اجتماع السبعة الكبار حول العقبات التي تواجه التحالف الغربي ضد روسيا، والمتمثل في القلق الذي عبر عنه قادة الدول الأوروبية من خسارة دعم شعوبهم، في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية الناتجة عن هذه الحرب، والذي يتطلب التحرك بشكل اسرع لحسم المعركة مع روسيا.

وتسعى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي منذ بداية الحرب لاستبدال واردات الطاقة الروسية بواردات للطاقة من دول أخرى، وذلك من خلال اقناعها بزيادة انتهاجها من هذه الموارد، كما تسعى لاستبدال هذا النوع من الطاقة بمصادر أخرى صدقة للبيئة وغير صديقة من الفحم الحجري، كي يتسنى للدول الغربية حظر معظم واردات الطاقة الروسية مع نهاية هذا العام. وتبنت المفوضية الأوروبية في مايو الماضي خطة تهدف في المقام الأول لتقليل واردات الطاقة الروسية بحلول نهاية العام ٢٠٢٢، وانهاء الاعتماد على روسيا تماماً بحلول العام ٢٠٣٠، من خلال البحث عن ممولين آخرين لمصادر الطاقة القادمة من روسيا، ووضع الخطط التي تساعد في تغيير سلوك المستهلك وتنويع مصادر الطاقة خلال الأشهر القادمة.
وخلال الايام القليلة الماضية، بذلت الإدارة الأميركية كل طاقاتها لتوسيع حلف الناتو، اذ نجحت مؤخراً في إقناع تركيا برفع تحفظها عن انضمام فنلندا والسويد للحلف، بعد الاستجابة لكافة شروطها. فاعلنت وزيرة الخارجية السويدية أن السويد وفنلندا اتفقتا على عدم تقديم الدعم للمنظمات الكردية، أو أي منظمات أخرى يمكن أن تضر بأمن تركيا، سواء بالأسلحة او بأي مساعدات أخرى، كما سيرفع البلدان حظر توريد الأسلحة المفروض على أنقرة، والذي فرض عليها منذ العام ٢٠١٩، بعد تدخلها في شمال سوريا ضد الأكراد. وأبدت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي استعدادها لبيع طائرات مقاتلة من طراز “اف ١٦” المحدثة لتركيا. ولم تتوقف زيارات القيادات الأوروبية إلى أنحاء مختلفة في العالم سعياً لتأمين الطاقة البديلة عن الطاقة الروسية، وكذلك فعلت الولايات المتحدة، فتواصلت حتى مع فنزويلا، حيث تقابل مسؤولين رسميين أمريكيين مع عدد من القيادة الفنزويلية، الحليفة لروسيا، والتي تخضع لعقوبات أميركية منذ سنوات، بخصوص زيادة امدادات النفط.

في اطار كل تلك التطورات تأتي زيارة بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط الأسبوع القادم ضمن ذات السياق، وتحمل ذات الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها، مع الوضع بعين الاعتبار أولًا قلق بايدن على الانتخابات النصفية للكونجرس المقررة بعد أربعة شهور فقط من الان، والمخاطر من فقدان الأغلبية البرلمانية، التي ستجعل منه بطة عرجاء خلال العامين القادمين من حقبته الرئاسية في حال هزيمة الديمقراطيين فيها، ثانياً هناك عدد من القضايا التي تتعلق بالمنطقة نفسها. ويبدو أن الهدف المباشر من زيارة الرئيس بايدن للمنطقة الأسبوع القادم هي المملكة العربية السعودية، حيث كانت زيارة بايدن لإسرائيل الحليف القريب مقررة قبل وضع السعودية على أجندة الزيادة الحالية.

وسيشارك الرئيس الأميركي في القمة التي ستعقد في السعودية، بمشاركة قادة دول مجلس التعاون الخليجي الستة، بالإضافة إلى قادة مصر والعراق والأردن. وأرسل بايدن عدد من مساعديه الى الرياض في وقت سابق من هذه الزيارة، في إشارة صريحة على تراجعه وإدارته عن مواقفهم السابقة من المملكة السعودية. وتتطلع الولايات المتحدة لإقناع السعودية بزيادة إنتاجها من موارد الطاقة لخفض الأسعار وضبطها في مواجهة روسيا، الا أن ذلك يحتاج إلى التصدي لالتفاف السعودية ودول المنطقة نحو الصين وروسيا، بعد أن بدأت الولايات المتحدة بتنفيذ استراتيجيتها المعلنة بالانسحاب من المنطقة، وروجت لواقع تخليها عن حلفائها التقليديين.
ولجأت الرياض لروسيا للحفاظ على توازن سوق النفط، كما تحتفظ بعلاقات جيدة مع الصين، التي تعد سوقاً كبيراً لنفطها، كما يبدو بأنها لم تقبل بحسم المعركة في اليمن، خاصرتها الجنوبية لغير صالحها، حتى ولو لم ينسجم ذلك مع الأولويات الأميركية في المنطقة. وتعتقد الولايات المتحدة أنها تحتاج لاستعادة الرياض إعادة تفعيل مقاربة الخطر الإيراني، والذي يبدو الدور الإسرائيلي في إطارها جوهرياً، الأمر الذي يفسر الحديث عن وضع إدارة بايدن لخارطة طريق تحقق التطبيع بين اسرائيل والسعودية، ولقاء شخصيات إسرائيلية عسكرية رفيعة المستوى مع شخصيات سعودية مؤخرا في مصر تحت رعاية الولايات المتحدة. وينوي بايدن الانتقال بطائرته بشكل مباشر من تل أبيب إلى جدة، خلال تلك الزيارة المرتقبة، في ذات المسلك الذي اتبعه دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق على ٢٠١٧. وترجح تلك التطورات عدم امكانية التوصل لإتفاق نووي مع إيران، رغم استئناف المفاوضات مؤخراً، في ظل موقف إسرائيل والسعودية من ذلك الإتفاق، وهو الأمر الذي ينبؤ بمزيد من التصعيد في المنطقة في إطار الملفات الملتهبة في سوريا ولبنان والعراق اليمن.

لا تبدو القضية الفلسطينية فعلياً على الأجندة الأميركية في هذه الزيارة المرتقبة، وتبدو أضعف حلقاتها، لكن إرضاء الفلسطينيين مهم في ظل توجهات الإدارة الحالية لاحتواء السعودية والحاجة لإسرائيل لمساعدتها في هذا الدور في إطار تضخيم او تفعيل الخطر الإيراني، وهو الأمر الذي يفسر نشاط الدبلوماسية الأميركية الأخير بارسال باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية المكلفة حديثا بشؤون الشرق الأدنى، ومن قبلها زيارة هادي عمرو نائب مساعد وزير الخارجية، للتمهيد لزيارة ليف، والاتصال الهاتفي الذي اجراه انطوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أيام، وكذلك تعيين عمرو قنصل عام غير مقيم، وكلها مبادرات شكلية، لا تحمل أي مضمون سياسي حقيقي، في ظل تأكيدات الإدارة الأميركية عدم نيتها إحياء عملية السلام، وفي إطار استمرار دعمها المطلق لإسرائيل، ومبادراتها لتوسيع التطبيع بين إسرائيل والسعودية. لم تتراجع إدارة بايدن عن أي من سياسات ترامب المثيرة للجدل بحق الفلسطينيين، رغم مرور عام ونصف من عمر هذه الإدارة، وتتمسك بمبادرات شكلية لا تحمل أي جوهر سياسي معهم، وتكتفي ببعض المبادرات الاقتصادية، بما يضمن بقاء حوار أو علاقة فاترة مع السلطة. ويعتقد الرأي العام الفلسطيني، حسب استطلاعات للرأي أجريت مؤخراً، بأن الولايات المتحدة تعتبر التهديد الثاني بعد إسرائيل على القضية الفلسطينية.

رغم فرض الولايات المتحدة مؤخراً حظرا على الذهب الروسي، في إطار سياسة العقوبات المتدرجة التي تفرضها على روسيا، حيث يعد الذهب ثاني منتج تصدره روسيا بعد الطاقة، وتعتبر روسيا ثاني منتج عالمي للذهب بعد الصين، الا أن العقوبات أثبتت أنها لا تأتي بالنتائج المرجوة، كما كان ذلك في حالات عديدة، على رأسها حالة فنزويلا في عهد رئيسها الراحل هوجو شافيز أو في حالة العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، أو في حالة إيران في الماضي والحاضر. بل على العكس، تنتج العقوبات الغربية على روسيا أعباء إقتصادية على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أنفسهم، باعتبار روسيا أكبر مصدر للطاقة لدول الإتحاد الأوروبي، وأهم شريك تجاري له، فروسيا تعتبر خامس أكبر مستهلك لصادرات الاتحاد الأوروبي، وثالث أكبر منتج لوارداتها، والمصدر الرئيس لموارد طاقتها، التي تشكل ربع وارداتها النفطية، وحوالي ٤٠٪؜ من واردات الغاز الطبيعي. كما يبدو جلياً أنه من الصعب حسم المعركة العسكرية سريعاً، الأمر الذي يرجح مزيداً من تفاقم الاوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط.

في حال حدوث مزيد من التفاقم للأحداث العالمية، ستواجه فلسطين العديد من المشكلات، والتي علينا البحث عن حلول لها الان. فالاقتصاد الفلسطيني اقتصاد خدماتي، ويعتمد الشارع الفلسطيني على القمح المستورد بنسبة تصل الى ٩٥٪؜، وتفتقد فلسطين إلى بنية تحتية ملائمة لتخزين الحبوب، اذ تكفي سعة تخزين القمح الحالية لثلاثة شهور فقط، حسب منظمة الأغذية والزراعة. كما أن ارتفاع أسعار النفط في فلسطين والذي وصل لأعلى مستوياته منذ تسع سنوات، يجعل الفلسطينيون يفكرون في تخزينه، الا أن دولة الاحتلال ترفض منح الفلسطينيين موافقة لإقامة مواقع لتخزين الوقود في منطقة “ج” المناسبة لإنشاء مثل هذه المستودعات، لبعدها عن المناطق السكانية، وهو ما يعتبر ضرورة في مثل هذه الظروف، خصوصاً وأن المخازن الموجودة حالياً تكفي لتخزين ما يكفي لأيام معدودة فقط. كما أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والتي تقدم مساعدات غذائية لشريحة كبيرة من الفلسطينيين، تطالب بزيادة الأموال المقدمة لها، كي تتمكن من توفير الكميات المطلوبة منها، بعد ارتفاعها الأسعار، الأمر الذي يعني مزيداً من العجز في حال تفاقم الأحوال العالمية. كما أن السلطة الفلسطينية تعتمد في ميزانيتها بشكل كبير على المساعدات الخارجية، الأمر الذي سيصعب مهمتها لتغطية النفقات الرئيسة في حال تفاقمت الازمة العالمية المالية أكثر.

إرسال التعليق