أسرلة التعليم في القدس إلى أين؟
د. سنية الحسيني
ليس التعليم فقط، بكل ما يحمله من أهمية في بناء وترسيخ الهوية الفلسطينية العربية لنشئ فلسطين ومستقبلها، الذي يستهدفه الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة، فكل وجود أو رمز عربي في القدس مهدد وهدف لقلبه وتزويره بتهويده. وتشهد هذه المدينة بمعالمها التاريخية وأزقتها العتيقة وملامح سكانها الأصليين على عروبتها، التي تسعى سلطات الاحتلال لطمسها وتزويرها، كي تنسجم مع روايتها الصهيونية. وحتى يحقق الاحتلال هدفه في مدينة القدس أو يبوس الكنعانية عمل على توسيع حدود المدينة تارة، وتغيير تركيبتها السكانية تارة أخرى، وأسرلة أسماء الشوارع والحارات وتهويد معالمها التاريخية العربية الإسلامية والمسيحية وتبديل اللغة المحفورة على تلك المعالم في محاولة لتجاوز الحقائق. ولأسرلة التعليم الأساسي في مدينة القدس أهمية خاصة، لا تقل أهمية عن مخططات الاحتلال لتهويد مدينتنا المقدسة، لأن التعليم في مراحلة الأساسية يبنى هوية الطفل ويصقل انتماءه وثقافته التي سيحملها معه في مرحلة نضوجه. إن ذلك يفسر اهتمام إسرائيل بأسرلة التعليم الأساسي في المدينة بعد احتلالها للقسم الشرقي منها مباشرة عام ١٩٦٧. احتل اليهود القسم الغربي من مدينة القدس عام ١٩٤٨. ومنذ احتلال القدس الشرقية حتى يومنا هذا يصارع المقدسيون معركة ضروس تستهدف وجودهم وتاريخهم وهويتهم، فكيف يمكن أن يحمي الفلسطينيون هويتهم في القدس اليوم من ظل محاولات العدو لطمسها؟
بدأت محاولات الاحتلال لأسرلة التعليم الأساسي في مدارس مدينة القدس منذ العام ١٩٦٧، فأصدر قانون خاص يخضع التعليم لسلطاته، بعد أن ضم المدينة في غضون أسابيع قليلة من الإحتلال. قاوم المقدسيون في ذلك الوقت تلك السياسة من خلال اخراج أبنائهم من المدارس العامة الخاضعة لسلطة دولة الاحتلال، متوجهين إلى المدارس الخاصة والأهلية، التي تتبع إدارياً للكنائس والجمعيات الخيرية والأفراد، وتوجهوا كذلك لمدارس الأوقاف الإسلامية، التي تتبع وزارة الأوقاف الأردنية، وأيضاً لمدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الاونروا”، والذين كانوا جميعاً يلتزمون بمنهج التعليمي الأردني، فتراجعت سلطات الاحتلال وفشلت مخططاتها في ذلك الوقت، وقبلت باستمرار التدريس في المدارس العامة وفق المنهج الأردني. لم تتوقف مساعي الاحتلال لأسرلة التعليم في القدس بعد توقيع إتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، بعد أن باتت مدارس الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها الضفة الغربية وغزة والقدس تلتزم بمنهج التعليم الأساسي الفلسطيني.
في عام ٢٠٠٠ بدأت سلطات الاحتلال بتضييق الخناق على مدرسي المدراس من الضفة الغربية الذين يدرسون في مدارس القدس، باللجوء إلى أساليبها الاحتلالية المعهودة من منع حصولهم على تصاريح وتعطيل على الحواجز واعتقال، فباتوا يشكلون اليوم أقل من ٢٠٪ من نسبة مدرسي المدارس في المدينة، بعد أن كانوا يشكلون أكثر من ٦٠٪ من مجمل المدرسين فيها في ذلك العام. في العام ٢٠١١ بدأت سلطات الاحتلال بأسرلة مناهج التعليم الفلسطينية في مدارس المدينة الابتدائية والاعدادية العامة الحكومية وشبه الحكومية “مدارس المقاولات”، وذلك بتبديل أو حذف المواد المنهجية والمعلوماتية التي ترسخ الهوية الفلسطينية العربية، واستبدالها بمواد أخرى تروج للرواية الصهيونية وتسويغ سياسة الاحتلال. كما قامت سلطات الاحتلال في بعض من تلك المدارس بتدريس المنهج الإسرائيلي، الذي يدرس للفلسطينيين في الأراضي التي احتلت عام ١٩٤٨، والذي يحمل طابعاً صهيونياً سياسياً ويهودياً دينياً بامتياز. وتكمن المشكلة في أن المدارس الحكومية وشبه الحكومية في القدس تمثل حوالي ٤١٪ من مجمل مدارس المدينة، كما يدرس فيها حوالي ٤٩٪ من مجمل طلاب المدينة الفلسطينيين.
إن مشكلة أسرلة التعليم في القدس لم تبدأ الآن، وإنما ما نشهده اليوم من الغاء لتصاريح عدد من مدارس القدس ما هو الا إجراء ضمن سلسلة من الإجراءات التي بدأت تتخذها سلطات الاحتلال تجاه المدارس الخاصة والأهلية والأوقاف، بعد أن نجحت في أسرالة التعليم لحوالي نصف طلاب المدينة الفلسطينيين، وخفض عدد مدارس “الاونروا” فيها. ففي العام التالي على قرارها بأسرلة التعليم في المدارس العامة الحكومية وشبه الحكومية في المدينة، سعت سلطات الاحتلال للتدخل في المدارس الخاصة والأهلية والاوقاف، من خلال منح تراخيص لتلك المدراس عام ٢٠١٢، الأمر الذي سمح بدوره بحصولها على تمويل حكومي من دولة الاحتلال. في ذلك الوقت لم تكن تلك المنح مشروطة، الأمر الذي يفسر قبول معظم مدارس المدينة بها، حيث باتت تلك المنح تشكل حوالي ٣٠٪ من مجمل ميزانية عدد من تلك المدارس. جاءت المرحلة التالية من مخطط الاحتلال في العام ٢٠١٨ عندما وضعت سلطاته خطة خمسية لأسرلة كافة قطاعات المدينة العربية على رأسها قطاع التعليم، حيث رصدت تلك الخطة أكثر من ملياري شيكل لتحقيق أهدافها، كما قامت في العام التالي باغلاق مكتب التربية والتعليم الفلسطيني في المدينة. منذ ذلك الوقت بدأت سلطات الاحتلال بمراقبة وملاحقة مدارس المدينة لمساومتها بالتراخيص والمنح المالية التي تقدمها لها في مقابل اعتماد المناهج المشوهة للتدريس بدل مناهج السلطة الفلسطينية.
إن أسرلة التعليم وغسيل أدمغة أطفالنا ليست هي الطريقة الوحيدة التي يتبعها الاحتلال لمحاربة الانسان الفلسطيني وهويته في القدس وضواحيها، ففصل أحياء المدنية وحدودها بالحواجز العسكرية وقطع الطرق التي تحول دون وصول أطفالنا إلى مدارسهم بأمان، خصوصاً بعد بناء جدار الفصل العنصري وفصل القرى والبلدات المقدسية عن مدينة القدس، والاعتداءات والاغارات الممنهجة على مدارس المدينة، واعتقال وإبعاد الطلبة والمدرسين، ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، وعدم منح تراخيص البناء والترميم للمدارس لزيادة عدد الفصول فيها، بما يتناسب مع الزيادة السكانية الطبيعية، وتقليص عدد الأساتذة وتدني أجورهم مقارنة بمستوى المعيشة في المدينة وبنظرائهم في مدارس القدس العامة، ورفض الاعتراف بشهادة الثانوية العامة الفلسطينية، كلها وسائل يحقق من خلالها الاحتلال مخططاته.
في المقابل يوفر الاحتلال في المدارس الخاضعة لسلطته كل المقومات اللازمة للتعليم السوي، لجذب أكبر شريحة من الطلاب المقدسيين اليها، الأمر الذي يفسر تضاعف عدد المدارس التي تدرس المنهج الإسرائيلي في القدس أربع مرات ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠٢٠، بينما تضاعف عدد الطلاب المقدسيين الذين يدرسون هذا المنهج إلى ست أضعاف خلال ذات المدة. أنتجت هذه الأجواء التعليمية المشوهة التي فرضتها سلطات الاحتلال على الطلاب المقدسيين حالة تسرب طلابي من المدارس، تزامنت بالإضافة إلى سياسة التضييق التي يفرضها الاحتلال على المدارس مع انتشار حالة من الفقر بين سكان المدينة الفلسطينيين، نتيجة سياسة منظمة ينتهجها الاحتلال بفرض ضرائب باهظة على المقدسي من ناحية ومحاصرتها لأي نشاط إقتصادي يقوم به من ناحية أخرى. وتبدو المفارقة الأكثر غرابة أن نسبة تسرب الطلاب الفلسطينيين من المدارس العامة التابعة لسلطات الاحتلال تصل إلى ٥٠٪ بينما لا تتجاوز هذه النسبة الـ ١٣٪ في المدارس الخاصة والأهلية والأوقاف و”الاونروا” التي تعاني من ممارسات الاحتلال.
إنها حرب طويلة ومستمرة وشاملة، لن ينتصر فيها الا الأقوى إيماناً والأشد صموداً والأكثر عملاً وتخطيطاً. وليس أمامنا الآن الا مواجهة مخططات العدو، لأن التعويل على عامل الزمن أثبت فشله، فإسرائيل تستغل اختلال موازين القوة لتغيير الواقع الفلسطيني وفرض مخططاتها بشكل تدريجي ومبرمج بالاعتماد على عامل الزمن. أما فيما يتعلق بمواجهة مخططات أسرلة التعليم في القدس فيبدو أن المعركة قد بدأت لمواجهتها ليس فقط في المدارس الخاصة والأوقاف وإنما أيضاً في المدارس العامة. فعلى الحكومة الفلسطينية توفير ميزانيات خاصة كبيرة لمدينة القدس بشكل خاص وعاجل يبدأ على المستوى الأولى بتغطية نفقات تلك المدارس، لتمكينها من التخلص من عبء ميزانية وزارة التعليم الإسرائيلية التي سمحت لسلطات الاحتلال بمساومتها. وهناك حاجة ملحة لأموال إضافية لشراء أو استئجار مزيد من المدارس الخاصة المدعومة مالياً لتوفير تعليم غير مكلف لجذب طلابنا من المدارس العامة الحكومية وشبة الحكومية. وهذه دعوة مفتوحة للدول العربية لتفعيل قرارتها الخاصة بدعم القدس، فالحاجة أصبحت اليوم ملحة لنصرة أهلنا في بيت المقدس لمواجهة هذه الهجمة الشرسة على هويتنا الفلسطينية العربية والإسلامية والمسيحية. وقد يكون هناك حاجة للتفكير بانشاء أطر للمدرسين والعاملين في مدارس القدس وآخرى خاصة بأولياء الأمور في تلك المدارس كي تعمل من القدس مع المؤسسة الحكومية الفلسطينية والمؤسسات غير الحكومية المدعومة عربياً لوضع المخططات اللازمة لمواجهة ما آلت اليه الأمور التعليمية في قدسنا الصامدة.
إرسال التعليق