الإسرائيليون: في ما بينهم الخطر الوجودي
د. سنية الحسيني
تصاعدت موجة الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل خلال الشهر الجاري، وهي مؤهلة للزيادة في ظل استمرار التباينات بين أركان المجتمع الإسرائيلي. ورغم أنها ليست الأولى من نوعها، الا أنها تعد الأخطر على مستقبل الدولة، لأنها تمس جوهر العلاقة بين الدين والدولة، أو بين المتدينين والعلمانيين. تبرز أهمية هذه التطورات الحالية في الساحة السياسية الإسرائيلية في ظل قلق صريح من قبل قادة إسرائيليين مخضرمين من نهاية إسرائيل القائمة حالياً، وإشارة بعضهم لإمكانية حدوث ذلك نتيجة لحرب أهلية داخلية بين الإسرائيليين أنفسهم.
تصاعدت حدة الاحتجاجات الحالية خلال الأسبوعين الماضيين، والتي اعتبرت الأكبر منذ عشر سنوات، بعد تقلد أعضاء حكومة نتنياهو لمناصبهم، وتبنيهم لتصريحات وممارسات مع مطلع الشهر الجاري، والتي تعكس توجهاتهم ونواياهم، التي أعلنوا عنها خلال دعايتهم الانتخابية. وتشمل الاحتجاجات الحالية شرائح واسعة ومتنوعة من المجتمع الإسرائيلي، ممثلة بأفراد ونقابات وبلديات ومؤسسات قضائية وتعليمية وأكاديمية وإعلامية، بدءاً بجهاز القضاء ومروراً بجهاز التعليم والصحة والبنوك والبلديات والقطاع الخاص وغيرها. وأرسلت هذه الجهات المتعددة رسائل مفتوحة لنتنياهو وللإعلام تدعو إلى عدم نيتها الامتثال لأي جهة رسمية تفرض عليها قيود دينية أو تمييزية ضد فئة من فئات المجتمع.
ولعله من المفيد المرور على تصريحات وإجراءات الحكومة الجديدة التي تعكس نواياها وسياساتها، وخصوصاً في المجال القضائي الذي شكل أبرز القضايا التي أثارت حفيظة شرائح واسعة من الاسرائيليين خلال التحركات الشعبية للاخيرة. فقد أعلن وزير العدل الجديد مطلع الشهر الجاري عن نيته اجراء اصلاح قضائي، فيما يخص طريقة تعيين قضاة المحكمة العليا القائمة حالياً، بحيث يكون للنواب سلطة التحكم في وسائل التعيين، وتمكين الكنيست من إعادة سن قانون ألغته المحكمة، وتقليص صلاحيات القضاة في هذا المجال، وهو ما أعاد نتنياهو وأكد عليه. الا أن ذلك لا يقل أهمية عن نية الحكومة الجديدة وتصريحاتها لإضعاف الإعلام وحرية الرأي أيضاً، من خلال عملها المعلن لتحجيم حدود صلاحيات السلطة الرابعة وتوسيع مستويات الرقابة على أدائها. كما عكس تعيين نتنياهو لـ “أفي ماعوز” اليميني المتطرف مسؤولاً عن المناهج الدراسية غير المنهجية في المدارس، والتوجه لزيادة الإعانات للمدارس الدينية والاستقلالية في تدريس موادها، وتصريح عضوين يمينيين من الكنيست حول حق الأطباء وأصحاب الفنادق رفض معالجة أو استضافة أشخاص معينين لأسباب سياسية أو دينية، وما كشفه كذلك صحافي في جريدة “يديعوت احرنوت” الإسرائيلية أن حزب نعوم المتطرف يعد قائمة سرية بأسماء أفراد المجتمع الذين تنوي الحكومة اضطهادهم، أثار هذا كله رفضاً واسعاً من شرائح المجتمع الإسرائيلي المختلفة. وأعلنت مؤسسات ونقابات منها بنوك مهمة في إسرائيل ونقابة الأطباء وجمعية الصيادلة ورابطة الممرضين وأطباء وصيادلة وممرضون بصفتهم الشخصية بأنها لا تنوي أبداً التمييز في المعاملة بين شرائح المجتمع المختلفة، كما أعلنت نيتها مقاطعة أي جهة ستقوم بالتمييز، ناهيك عن رفض قطاعات واسعة حقوقية وقانونية واكاديمية لإجراءات الحكومة القضائية.
من الواضح أن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عكست اتساع التأييد للكتلة اليمينية المتدينة والمتطرفة، وكذلك نمو حجمها في المجتمع الإسرائيلي، على حساب كتلة اليمين العلماني، في ظل غياب اليسار واضمحلاله. كما يعكس تصاعد الاحتجاجات الأخيرة في الشارع الاسرائيلي كبر الفجوة بين المتدينين والعلمانيين، وميلها لصالح المتدنيين، واحتدام الصدام بين التيارين. وبدأت الكتلة اليمينية الدينية للبروز في الساحة السياسية في إسرائيل منذ العام ١٩٧٧، عندما صعد حزب الليكود إلى سدة الحكم، والذي حمل رؤية سياسة أكثر راديكالية وأكثر تديناً وإبرازاً للقيادات اليهودية من الشرقيين، مقارنة بالقيادة التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت. وطالما شكلت الأحزاب اليمينية الدينية الكتلة الداعمة لنتنياهو في حكوماته الثلاث السابقة. ويتكون ائتلاف نتنياهو اليوم من خمسة أحزاب هي الليكود والصهيونية الدينية المتطرفة بحزبيها الرئيسيين بقيادة بن غفير وسموتريتش، والحزبين الدينيين شاس ويهدوت هتوراه. وارتفعت قوة الحزبين الدينيين في الكنيست في هذه الانتخابات الأخيرة مقارنة بالماضية بمقعدين، بينما ارتفعت نسبة تأييدهما في الشارع الإسرائيلي مقارنة بالعام ١٩٩٢، من ٨.٢٪ الى ١٤.٢٪، في تطور نوعي ملحوظ. في حين زادت نسبة مقاعد تحالف الصهيونية الدينية في الكنيست في هذه الانتخابات مقارنة بالماضية من ستة مقاعد إلى ١٤ مقعداً. إن تطور قوة ومكانة المتدينين في الساحة السياسة الإسرائيلية لا يعكس فقط تطور مكانتهم السياسية، وانما أيضاً نمو عددهم في المجتمع الإسرائيلي، والذي جاء نتيجة سياسة حكومية مدروسة على مدار السنوات الماضية. وينطبق ذلك أيضاً على نمو مكانة وعدد أعضاء الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تعكس التطور في عدد المستوطنين ومكانتهم السياسية في الشارع الإسرائيلي، والذي يأتي ضمن سياسات حكومية مبرمجة ومصقولة بعناية لتمكينهم. ويُعتبر اليوم حوالى ثلثي الشباب اليهود في إسرائيل من المتدينين، كما يدعم حوالي نصف اليهود في إسرائيل توجهات متطرفة ضد الفلسطينيين، والتي يحملها تحالف الصهيونية اليهودية.
ويميل المجتمع الإسرائيلي عموماً نحو اليمين عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وإن انقسم بين الديني والمتطرف والعلماني. وركز نتنياهو في دعايته الانتخابية الأخيرة على قضيتين، أمن الإسرائيليين والتي تتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين، ويهودية الدولة، والتي ارتبطت بشكل مباشر بحصد دعم الناخبين لكتلته، التي نمت خلال السنوات الماضية. لذلك على العلمانيين اليهود أن يتذكروا أن المشكلة القائمة في إسرائيل اليوم بنيوية، وليست قضية عابرة. إن التمييز بين اليهودي والفلسطيني في المجتمع الإسرائيلي نشأ مع نشأة إسرائيل، ليس فقط في إطار الممارسات بل أيضاً في اطار التشريعات، بدءاً بالتشريعات الخاصة بالعودة والمواطنة التي تميز اليهودي عن غيره، ومروراً بجميع التشريعات التي تحدثت عن دولة يهودية ديمقراطية. إن ذلك يتناقض مع جوهر الديمقراطية الغربية، التي تتغنى بها إسرائيل، وتستخدمها الولايات المتحدة والعالم الغربي لتمييز إسرائيل عن غيرها من دول الشرق الأوسط، والتي تقوم على أساس المساواة والمواطنة قبل أي اعتبار آخر. كما أن الانقسام في المجتمع الإسرائيلي ايضاً ولد مع ميلاد هذه الدولة، التي ميزت بين اليهودي والفلسطيني وبين اليهودي الشرقي والغربي. كما أن الانقسام بين العلماني والمتدين قدر لا بد لإسرائيل أن تعيشه، فالتوجه الصهيوني الذي جاء بإسرائيل اعتمد على البعد والمعطيات والمبررات الدينية اليهودية، رغم توجه منظريها العلماني، كما أن قادة إسرائيل يؤكدون على يهودية دولتهم، أي أن فصل الدين عن الدولة في إسرائيل غير ممكن. إن ذلك يفسر تمكين الحكومات المتعاقبة في إسرائيل للتيارات الدينية، والتي باتت متحكمة اليوم في مفاصل الدولة. وأما فيما يخص التيارات اليمينية المتطرفة، والتي عملت الحكومات الإسرائيلية المختلفة على دعمها ومساندتها، للتصدي للفلسطينيين، فهي الوحش الذي يكبر تدريجياً، والذي سيصبح خطراً على الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما تكشفه الأيام. هذه التطورات في الساحة السياسية الإسرائيلية وصعود مثل هذه التيارات لسدة الحكم ستحرج حلفاء إسرائيل الذين عليهم أن يبرروا اليوم دعمهم لحكومة إسرائيلية يمينية ودينية ومتطرفة.
إرسال التعليق