عن فرص نجاح الاتفاق السعودي – الإيراني
د. سنية الحسيني
يأتي الإعلان الثلاثي، الذي جمع الصين والمملكة العربية السعودية وإيران، في العاشر من آذار الجاري، بمثابة حدث إستراتيجي مهم في منطقة الشرق الأوسط من الصعب تجاوزه أو القفز عنه، في ظل دور السعودية وإيران الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، ومكانتهما الإستراتيجية الإقليمية.
ورغم أن هذا الاتفاق أعاد العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ العام ٢٠١٦، إلا أن هذا الأمر ليس أهم ما يميزه، فقد انقطعت العلاقات بين البلدين على مدار تاريخها الحديث ثلاث مرات وعادت، إذ يميز هذا الاتفاق المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية المتطورة الذي جاء في إطارها وسمحت بإبرامه، كما يمكن أن تسمح بسريانه ونجاحه مستقبلاً. لم تستطع الولايات المتحدة إخفاء عدم حماسها لإبرام الاتفاق، حيث جاء التعليق الوحيد من قبل المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بترحيب بلاده بأي جهد يمكن أن يساعد في إنهاء الحرب في اليمن، وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط. في حين تبادل رؤساء الوزراء في إسرائيل، الرئيس الحالي والسابقان، نتنياهو من جهة وبينيت ولابيد من جهة أخرى، الاتهامات بأن سياسة الآخر هي من أوصل لهذا الفشل السياسي. وقدمت تحليلات الكتاب الإسرائيليين رؤية متشائمة حول الاتفاق، فقد اعتبر بعضهم أنه يحطم حلم إسرائيل بتشكيل حلف عربي ضد إيران، ورأى آخرون أنه يمنح إيران مزيداً من الصفقات مع الدول العربية.
هناك عدد من العوامل التي ساعدت في الوصول إلى هذا الاتفاق الإستراتيجي، بعضها قد يعطي مؤشرات باحتمال نجاح تطبيقه بشكل فعال، إلا أن هناك عوامل أخرى مهمة أيضاً قد تهدد نجاحه واستمراره. يأتي هذا الاتفاق، في ظل صعود الصين الاقتصادي وتمرد روسيا العسكري على الغرب خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وخفوت نجم ومكانة الولايات المتحدة كقطب منفرد، كمؤشر جديد ومهم على تطورات العالم المتعدد الأقطاب، وبروز القطب الصيني فيه بقوة. وفي إطار مساعي الصين في الماضي للمصالحة بين البلدين، بادرت بالفعل للتخفيف من حدة التوترات، وجاءت الإشارة إلى دخول الصين على خط المصالحة بين البلدين الشهر الماضي، حيث اقترح الرئيس الصيني استضافة قمة لهذا الخصوص في بلاده، وأكد على الموقف السعودي الإيجابي القادر على إحداث مثل هذا الاختراق، وكذلك تفهم إيران لمخاوف المملكة. وتبرز مكانة الصين ودورها السياسي والدبلوماسي في هذا الاتفاق إلى جانب دورها الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، التي تعد ضمن دائرة نفوذ الولايات المتحدة. ويعد دور الوسيط ومكانته عاملاً مهماً في إنجاح أي اتفاق عموماً وتحسين فرص تنفيذه، إذ تعد الصين وسيط هذا الاتفاق وصاحبة مصلحة بتحقق السلم والسيطرة على الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، في ظل مشاريعها وطموحاتها الاقتصادية الآنية والمستقبلية فيها. تعتبر الصين الشريك التجاري الرئيس لكل من المملكة العربية السعودية وإيران، فهي تستورد معظم حاجتها النفطية من دول الخليج، ومرشح لاعتماد الصين على نفط منطقة الخليج أن يزداد في المستقبل. ووقعت الصين مع إيران والسعودية كلاً على حدة، وخلال الفترة الأخيرة، اتفاقيات إستراتيجية بمبالغ طائلة وعلى مدار سنوات طويلة. وهذا يجعل من الصين ضامناً لنجاح هذا الاتفاق، كقوة ضاغطة على أي من الطرفين، ووسيطاً نزيهاً يقترب من طرفيه بنفس القدر تقريباً، وله مصلحة خاصة بنجاح الاتفاق، وحماية مصالحه في منطقة يعد البلدان قطبين مهمين فيها.
وقد وجدت الرغبة والنية السعودية والإيرانية لتحقيق التطبيع وتطوير العلاقات بين البلدين، حيث تبلور هذا الشعور عبر التجارب والسنوات الماضية. تبدو رغبة البلدين السعودي والإيراني واضحة لإحداث اختراق في العلاقات بينهما، انطلاقاً من مصالح كل طرف. فقد بدأت اللقاءات التفاوضية بين البلدين قبل ثلاث سنوات في إطار خمس جولات في بغداد بوساطة عراقية وترتيبات عُمانية، عكست رغبة البلدين في تحقيق اختراق لصالح علاقات إيجابية بينهما. وقد تكون هناك مشكلات ستواجه سياسة الولايات المتحدة المتخبطة سواء في علاقاتها بالمملكة العربية السعودية كحليف أو بإيران كعدو تتردد في التفاهم معه، في ظل ضغوطات إسرائيل. وتغيرت الاعتبارات الحاكمة في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة على مر السنوات، بعد أن مرت بكثير من الخذلان خلال العقدين الماضيين. بدأ ذلك بتوجيه تهمة الإرهاب لها بشكل غير مباشر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، مروراً بإبرام أميركا الاتفاق النووي مع إيران عام ٢٠١٥، دون مراعاة لمصالح المملكة أو مطالبها، وعدم مساندتها بعد مهاجمة منشآت شركة أرامكو النفطية عام ٢٠١٩، وقصر ملكي سعودي عام ٢٠٢١، وأهداف إماراتية عام ٢٠٢٢، وعدم دعمها في الحرب اليمنية. كما عارضت الولايات المتحدة صفقات السلاح الموجهة للسعودية، وصعّدت اللوم للمملكة في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان. وترفض أميركا منح المملكة ضمانات أمنية وحصولها على أسلحة متطورة أسوة بأعضاء الناتو وإسرائيل، كما تمتنع عن مساعدتها في بناء مفاعلها النووي المدني. وكانت السعودية وقّعت مع الحكومة الصينية مذكرة لبناء مفاعل نووي منذ العام ٢٠١٧، ورغم ذلك بقيت السعودية تحاول إقناع الولايات المتحدة لمساعدتها في بناء ذلك المفاعل دون فائدة ترجى.
الاتفاق السعودي مع إيران بوساطة الصين ليس هو الشاهد الوحيد على تغير طبيعة العلاقات السعودية الأميركية، فقط سبق ذلك موقف المملكة الرافض للطلب الأميركي بخفض إنتاج النفط في ظل تجمع «أوبك بلس»، وتوقيع اتفاقية تحالف إستراتيجي مع الصين بعشرات المليارات من الدولارات، والاتفاق معها مؤخراً على تطوير مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة المدنية. وباتت المملكة تؤكد اليوم على أن سياساتها الخارجية محكومة بمصالحها فقط، وليس بمصالح أي من الدول الأخرى، حتى لو كانت الولايات المتحدة.
هذا الاتفاق قادر إن سار في الاتجاه الصحيح على المساهمة في إدارة العديد من المشكلات الإقليمية العالقة، والتي يعد البلدان بشكل غير مباشر أو مباشر ضمن معادلاتها في اليمن ولبنان والعراق وسورية. كما قد يجعل هذا الاتفاق إمكانية شن إسرائيل حرب على إيران الآن أشد تعقيداً، فقد أكدت الإمارات أنها لا تريد أن تكون طرفاً في تحالف عسكري ضد إيران، ونمت العلاقات الإماراتية الكويتية مع إيران بشكل كبير العام الماضي، واليوم لن تقف السعودية مع أي هجوم ضد إيران. في العام ٢٠٠٦ أكد سعود الفيصل أثناء زيارته لطهران أن الأعداء يعلمون جيداً أن الوحدة في العالم الإسلامي خاصة بين إيران والسعودية تؤثر على تسوية وحل مشكلات المنطقة. ويمكن للصين الآن وفق هذه التطورات إبرام اتفاق نووي مع إيران، حيث هي الأقدر اليوم على إبرامه من الولايات المتحدة.
وقد يحث الانفتاح الدبلوماسي بين إيران والسعودية في ظل الرعاية الصينية فجوة تكتيكية بين إسرائيل ودول الخليج، بما قد يهدد مستقبل اتفاقيات إبراهيم، كما رسمت لها إسرائيل. كما أصبحت رغبة نتنياهو بتحقيق التطبيع مع السعودية أكثر بعداً، الأمر الذي يعد في مصلحة القضية الفلسطينية، في ظل الموقف الإيراني الداعم لحل عادل لهذه القضية، والمكانة التي تمتلكها السعودية لتحريك هذه القضية العادلة لصالح الفلسطينيين، في ظل عدم تأثير إسرائيل على الصين، كما تؤثر على الولايات المتحدة. وقد يحد وجود حكومة إسرائيلية على رأسها قيادة يمينية متطرفة في تعاملها مع الفلسطينيين، وتعاني اضطرابات داخلية، من تأثيرها المباشر لتعطيل الاتفاق. وكانت الولايات المتحدة سبباً في توتر العلاقات بين السعودية وإيران أكثر من مرة، حيث أعلنت أن إيران تقف وراء تفجير أبراج الخبر السعودية عام ١٩٩٦، في عهد ازدهار العلاقات السعودية الإيرانية في عهد حكومة الإصلاحي رافسنجاني، كما اتهمت ايران بالوقوف وراء محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير عام ٢٠١١. وتبقى سيناريوهات التخريب الإسرائيلية والأميركية غير المباشرة قائمة. كما أن هناك مليشيات وجماعات غير مستفيدة من هذا الاتفاق، وتقلق من إمكانية تخلي دول مهمة كالسعودية وإيران عنها، الأمر الذي يرجح محاولات تخريب الاتفاق، الأمر الذي يستدعي التعامل بسعة صدر وحسن النوايا، في ظل إدراك حجم المؤامرات الممكنة لإحباط الاتفاق.
إرسال التعليق