إسرائيل تقرر العودة إلى الاستيطان في قلب منطقة جنين
د. جمال زحالقة
أقرّ الكنيست الإسرائيلي قانونا، صبيحة الثلاثاء الماضي، قانونا جديدا يلغي بنود قانون فك الارتباط الخاص بشمال الضفة، ويُسمح بموجبه دخول الإسرائيليين إلى المناطق والمستوطنات في منطقة جنين، التي جرى إخلاؤها بالتزامن مع الانسحاب من طرف واحد من غزّة عام 2005. ومرّ تعديل القانون بأغلبية 31 صوتا مقابل 18، ودعمه جميع أحزاب الائتلاف وعدد من نوّاب المعارضة كان من بينهم جعون ساعار وزئيف إلكين من حزب «المعسكر الرسمي»، الذي يرأسه بيني غانتس. واحتفل المستوطنون، الذين حضروا جلسة الكنيست، بالرقص وبالغناء وبابتهالات الشكر لله، وأكد القائمون على القانون الجديد، أنّه خطوة أولى في تصحيح «خطيئة فك الارتباط» وما رافقها من انسحاب وإخلاء للمستوطنين من غزّة وشمال الضفة. ولا ينطبق هذا التشريع الإسرائيلي على قطاع غزّة، لكن القائمين عليه، لم يخفوا نيتهم العمل على «إعادة المستوطنين الذين طردوا من غزّة إلى ديارهم». قد يبدو هذا الأمر مستبعدا، لكن نواياهم موجودة.
بين برقة وشرم الشيخ
أقر الكنيست قانون إلغاء قانون فك الارتباط في الضفة في اليوم التالي لعقد اللقاء الأمني في شرم الشيخ بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة والأردن ومصر والسلطة الفلسطينية. وجاء البيان الختامي الصادر عن الاجتماع بلغة المثنّى: «أكد الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي التزامهما بتعزير الأمن والاستقرار، ووقف التصعيد ومتابعة إجراءات بناء الثقة.. وأكدا أيضا التزامهما بالعمل الفوري لإنهاء الإجراءات الأحادية الجانب». والحقيقة أن الاجتماع عقد لابتزاز التزام من طرف واحد، هو الطرف الفلسطيني، المطالب بالعمل على حماية إسرائيل من النضال الفلسطيني. ويأتي القانون الجديد لتأكيد ما كان جليا أمام كل من يفتح عينيه، وهو أن إسرائيل لا تلتزم بوقف التصعيد ولا بالامتناع عن خطوات من طرف واحد، وتواصل بلا توقّف عدوانها الدائم على الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الاستيطان. والحكومة الإسرائيلية الحالية لا تكتفي بمواصلة ما كان، وسنّت قانون إلغاء بنود فك الارتباط في الضفة، بعد فشل سبع محاولات سابقة لسنّه منذ عام 2007، لتفتح الباب على مصراعيه أمام زرع شمال الضفة بالمستوطنات. في شرم الشيخ تحدثوا عن التهدئة.. وبعيدا عن أي تهدئة وعلى الأراضي الخاصة لأهالي بلدة برقة وغيرها من البلدات، الواقعة قرب جنين، انفلات استيطاني. يبدأ بمنح شرعية لمدرسة «حوميش» الدينية العشوائية، ويتجه بسرعة نحو إعادة بناء مستوطنات حوميش وسنور وغانيم وكاديم، التي أخلتها إسرائيل تبعا لمشروع الانسحاب من جانب واحد عام 2005، الذي قام به أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق.
نص القانون
ينص القانون الجديد على شطب البنود الخاصة بإخلاء أربع مستوطنات إسرائيلية في شمال الضفة، وإلغاء التقييدات التي تمنع الإسرائيليين من دخول مناطق هذه المستوطنات. وهذا يعني على المدى القصير أن المدرسة الدينية التي أقامها المستوطنون بعد الانسحاب على أراض يملكها أهالي برقة، ستصبح شرعية وسيزيد بشكل كبير جدا عدد المستوطنين الذين يؤمّونها. كما من المتوقّع أن يجري المستوطنون احتفالات ومسيرات وصلوات ونشاطات مختلفة على أراضي المستوطنات الأربع والمناطق المحيطة. في هذه الحالة يقوم الجيش بحراسة المستوطنين، ويفرض قيودا شديدة على حركة الفلسطينيين في المنطقة. لم ينص القانون الجديد على إقامة مستوطنات، لكن احتفالات المستوطنين بعد تمريره تدل على اقتناعهم بأن المستوطنات ستُبنى من جديد، وبعد أن سكنها في الماضي 580 مستوطنا، فسوف يتضاعف عددهم عدة مرّات، وهم كذلك مقتنعون بأنّها خطوة تتلوها خطوات، خاصة أن هناك قوة مؤثّرة في اليمين وفي حزب الليكود، تدعو إلى إلغاء قانون فك الارتباط نهائيا، وفتح الباب، مبدئيا على الأقل، للعودة للاستيطان في غزّة أيضا. لقد جاء نص القانون «حذرا» واكتفى بالسماح لليهود بدخول «أراضي المستوطنات»، لكن من الواضح أن المستوطنين واثقون من قوتهم ومن قدراتهم وبدأوا يجهزون لإقامة بؤر استيطانية ويضغطون لإقامة مستوطنات بمبادرة من الحكومة.
تسهيلات للمستوطنين
تقع المستوطنات الأربع في منطقة مكتظة بالبلدات الفلسطينية منها، جنين وسيلة الظهر وبزارية وبرقة وجبع وعنزة وصنور والرامة وعجة وعطارة وفندقومية والزبابدة ومسلية وقباطية وغيرها. كل من يعرف المنطقة وطرقها وتاريخ نصب الحواجز فيها يعرف تماما أن عودة المستوطنين بهذا الكم وبهذا الانتشار سيكون له تأثير كبير في حياة الناس اليومية. ويحدث هذا في الوقت الذي يجري فيه الحديث في شرم الشيخ عن «تسهيلات»، ويتبين عمليا أنها تسهيلات للمستوطنين وخنق للفلسطينيين، وحيث يحشر المستوطنون أنفسهم في قلب التجمعات السكنية، فهم يقطّعون أوصال المنطقة ويعرّضون الناس للمضايقات اليومية، تصل إلى تعريض حياتهم للخطر. يندرج القانون الجديد ضمن سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى: أولا دفن حل الدولتين، ثانيا، التجهيز للضم، ثالثا زرع مناطق الضفة كافة بالمستوطنات ورابعا إجراء تغيير ديموغرافي في منطقة جنين أيضا. وعليه فالحكومة الإسرائيلية هي حكومة المستوطنين، لا بل غلاة المستوطنين تحديدا. وخلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر حصل المستوطنون على تسهيلات ضخمة منها تخصيص حوالي 2 مليار دولار لشق طرق التفافية على طول الضفة وعرضها، وإقرار بناء 7200 وحدة سكنية جديدة، والاعتراف رسميا بـ 15 بؤرة استيطانية عشوائية، مع الالتزام بالاعتراف بالبقية، ونقل صلاحيات من الإدارة المدنية إلى ممثل المستوطنين الوزير بتسلئيل سيموتريتش، الذي أصبح مسؤولا عن إدارة شؤون منطقة «ج»، بما فيها البناء الاستيطاني وهدم المنازل الفلسطينية وتطوير المستوطنات.
الموقف الأمريكي
عندما بادر أرييل شارون إلى تنفيذ مشروع انسحاب من طرف واحد من قطاع غزّة وإخلاء المستوطنات الأربع في شمال الضفّة، باركته الإدارة الأمريكية، واستنادا إلى هذه الخطوة الإسرائيلية وجّه الرئيس بوش الابن رسالة إلى شارون جاء فيها، عمليا أن الولايات المتحدة تعترف بالتغييرات الديمغرافية في الضفة الغربية، وتدعم ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل في إطار حل سياسي مع الفلسطينيين، وكتب له شارون رسالة وعد فيها بتنفيذ فك الارتباط للمحافظة على «الاستقرار والهدوء». كما أن إسرائيل وعدت الولايات المتحدة خلال الاتصالات الثنائية وفي اجتماعات العقبة وشرم الشيخ بالامتناع عن التصعيد، وعدم اتخاذ خطوات من طرف واحد. ويأتي تمرير القانون في الكنيست خرقا واضحا للالتزامات الإسرائيلية تجاه الأمريكان. فماذا فعلت الولايات المتحدة؟ لقد جاء رد الفعل الأوّلي فاترا على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، الذي قال في مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي: «موقفنا الذي نكرره هو أننا لا نريد أن نرى ما يمكن أن يعيق حل الدولتين الذي تلتزم به الولايات المتحدة والرئيس بايدن» وبعد مضي ساعات طويلة خرج البيت الأبيض ببيان دعا فيه إسرائيل إلى منع العودة إلى الاستيطان في المواقع التي أخلاها الاحتلال شمالي الضفة عام 2005، وذلك بموجب «التزامات قدمتها إسرائيل إلى الولايات المتحدة عام 2005 واستنادا إلى تعهداتها المتكررة في الشهر الأخير. واعتبرت الولايات المتحدة القانون بأنه استفزازي ويزيد من التوتر.
الولايات المتحدة «طالبت» إسرائيل ولكنها لم تعد بتفعيل أي ضغط عليها، أمّا إذا ضغطت الولايات المتحدة فعلا، فمن المرجّح أن يقوم نتنياهو بتجميد تنفيذ القانون عبر إصدار تعليمات بعدم التوقيع عليه من قبل القائد العسكري في الضفة الغربية، كما هو مطلوب قانونيا، وعبر منع إقامة مستوطنات في منطقة جنين. لم يكن البيان الأمريكي موجّها لإحراج إسرائيل أو للضغط عليها، بل لرفع بعض الحرج عن السلطة الفلسطينية، التي شاركت في اجتماع شرم الشيخ والتزمت بالتهدئة وبالعمل لمنع التصعيد، في مقابل امتناع إسرائيل عن القيام بخطوات من طرف واحد لعدة أشهر على الأقل، وهي عمليا لا تلتزم بشيء على أرض الواقع.
الموقف الفلسطيني
كالعادة صدر بيان فلسطيني رسمي بإدانة القانون الإسرائيلي الجديد، وكان البيان عقيما ولم يحمل أي التزام ولا أي وعد بفعل ما. كان بإمكان السلطة أن تقول، وهذا أضعف الإيمان، إنها في حلٍّ من التزامات العقبة وشرم الشيخ ما دامت إسرائيل لا تلتزم بالحد الأدنى مما وعدت به. كما يمكنها أن تتراجع عن تراجعها بعدم المضي في الإجراءات الدولية بشأن جرائم الاحتلال والاستيطان. لكن هناك موقفا فلسطينيا آخر لا يعترف بوعود العقبة وشرم الشيخ، وينطلق من الواقع على الأرض الفلسطينية وهو واقع مواجهة وصدام بين محتل مضطهِد وشعب مناضل ضد الاحتلال. ومن يسعى إلى إقامة مستوطنات في قلب منطقة جنين سيكتشف سريعا أنها ستتحول إلى عبء أمني كبير عليه. فليس صدفة أن شارون قرر، في حينه، الانسحاب منها.
إرسال التعليق