أحداث السودان هدفها مصر
كتب مصطفى عماره
في شهر أكتوبر الماضي زار إسرائيل وفداً أمنياً سودانياً، بمنأى عن الحكومة، برئاسة الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو، أحد كبار أعضاء مجلس السيادة، الأخ الشقيق لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس وقائد قوات الدعم السريع، الذي سبق شقيقه بزيارة إلى روسيا في فبراير، والتقى مسؤولين عسكريين كبارا، وقبلها بشهر واحد كان في إثيوبيا، في زيارة استقبله خلالها رئيس الوزراء أبي أحمد، ثم كانت آخر زيارات حميدتي الخارجية في فبراير الماضي إلى دولة الإمارات.
قبل أسبوع احتدمت الأوضاع في السودان بمواجهات بين قوات حميدتي (الدعم السريع) وقوات الجيش، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبدالفتاح البرهان، إلا أن ما يثير الاهتمام، إضافة إلى الجولات الخارجية المسبقة المشار إليها، هو ماورد في خطاب حميدتي أمام حشد كبير من أنصاره العسكريين، حول مصر، التي كانت محور الخطاب، مبرراً لقواته كل الأعمال العسكرية، والهجوم على مطار مروي العسكري، بأنها تستهدف ما أسماها (قوات الاحتلال) المصرية، والطائرات المصرية باعتبارها (طائرات تجسس)، والمصريون بالمطار الذين لا يخضعون للتفتيش في حال مغادرة السودان أو العودة إليه، قائلاً: يمكنهم تهريب الآثار وأشياء أخرى، الأهم أيضاً أنه استنكر على حكومة بلاده وجيشها عدم (تحرير) حلايب وشلاتين وأبو رماد، قائلاً: لو كانت هناك دعوة لذلك لكنت أول المتطوعين.
الأمر إذن يشير إلى أن الأحداث الجارية الآن في السودان، محورها الأول والأخير هو مصر، إضافة إلى كونها معركة نفوذ، فتح جبهة صراع مع الدولة المصرية، احتجاز وأسر قوات وطائرات مصرية، وقد استخدم أحد مساعدي حميدتي تعبير (التفاوض) حولهم، فتح ملف حلايب وشلاتين وإضافة أبو رماد هذه المرة، إغلاق باب التنسيق بين البلدين فيما يتعلق بالسد الإثيوبي قائلاً: إن اختيار مطار مروي المعزول – يقصد جغرافياً- يشير إلى أن هناك تدابير ما في الخفاء وهي إشارة واضحة، اعتبار الوجود العسكري المصري احتلالاً قائلاً: لسنا في حاجة إلى تدريب!!
مجرد زعيم مليشيا
من الخطأ أن يتصور البعض أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) مجرد زعيم ميليشيات يعتمد على الداخل المحلي فقط، أو على 100 ألف مسلح، ذلك أن جولاته الخارجية الأخيرة وحدها، تشير إلى أنه يتمتع بعلاقات دولية متشعبة، ليس ذلك فقط، بل إن عملية التمرد الحالية على الجيش والسلطة الرسمية سبقها إعداد وتنسيق على مستوى متشعب أيضاً، في الوقت الذي يضع يده على عدد من مناجم الذهب في دارفور، تستحوذ إحدى دول المنطقة على معظم الإنتاج، ويقوم هو بتصديره إليها (خام)، في الوقت نفسه يحصل حميدتي على أموال أوربية بشكل دوري، بذريعة مناهضة الهجرة الأفريقية غير الشرعية إلى أوربا، وذلك بمراقبة وإغلاق الحدود السودانية.
في الوقت نفسه، تجدر الإشارة هنا إلى ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، من أن الجنرال الليبي خليفة حفتر أرسل، قبل بدء القتال مباشرة، مساعدات وذخائر إلى قائد الدعم السريع، بما يفسر قرار نادي المريخ السوداني بالتزامن، تعيين الصدّيق، نجل الجنرال الليبي خليفة حفتر، رئيساً شرفياً للنادي، وتبرع الصدّيق بمليوني دولار، وهو ما اعتبره البعض مجرد باب شرعي لتحويل الأموال، وما سبق القرار من استقبال حافل من خليفة حفتر شخصياً لفريق الكرة ببنغازي في فبراير الماضي على هامش مباراته مع فريق الزمالك في التصفيات الأفريقية، وقد ذكرت الصحيفة في الوقت نفسه أن مصر أرسلت طائرات مقاتلة وطيارين قبل بدء القتال أيضاً لدعم الفريق البرهان.
السؤال الذي يطرح نفسه وبشدة مع تفاقم الأزمة السودانية: ما هو سر الغضب الإسرائيلي على النظام في مصر في الآونة الأخيرة، الصحف والمواقع الإسرائيلية تتحدث عن فشل اقتصادي، وتوتر مجتمعي، وغضب شعبي، رسائل وتفاعلات إسرائيلية كثيرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد أن هناك الكثير تحت الرماد، هل للأمر علاقة بالمقاومة الفلسطينية وفشل التعويل على مصر بالضغط على الفصائل المختلفة، هل للأمر علاقة بما يتداول عن مباحثات مصرية- إيرانية برعاية عراقية بهدف تحسين العلاقات، أو ربما تطور العلاقات مع تركيا، هل هناك أمور وأسباب أخرى؟ مع الوضع في الاعتبار صلاحية إسرائيل للوساطة بين طرفي النزاع في السودان حالياً في غياب أي دور مصري، أو بمعنى أدق : في غياب الصلاحية المصرية.
في كل الأحوال لا يمكن إعفاء إسرائيل مما جرى في السودان، وما يجري الآن من اتصالات معلنة بين المتحاربين، كما هو الأمر تماماً فيما يتعلق بالتعنت الإثيوبي تجاه الملء الرابع لسد النهضة، إلا أننا لا يجب أبداً أن نعفي الأجهزة المصرية المعنية عن مسئوليتها تجاه عدم الرصد المبكر لما جرى ويجري، سواء على صعيد تضخم حميدتي عسكرياً واقتصادياً في غياب علاقات قوية معه، أو على صعيد علاقاته الخارجية خصوصاً مع إسرائيل وإثيوبيا، وقبل كل ذلك على صعيد القيام بعمليات لم تستعد لها القوات المصرية هناك، لا بالانسحاب المبكر، ولا بالدفاع عن النفس على أقل تقدير.
في الوقت نفسه بدا واضحاً أن أمر الخلافات السودانية هذه المرة، ليس كسابقتها، التي يمكن احتواؤها بمجرد ظهورها على السطح، نظراً لما يتمتع به هذا الشعب من وعي كبير، وثقافة سياسية، ذلك أن الأمر هذه المرة يرتبط بدماء غزيرة سالت هنا وهناك، واحتلال لمقرات هنا وهناك، والأهم من ذلك هو التوعد بالانتقام والمحاكمات على الجانبين، مما جعل قرار خوض المواجهة حتى النهاية قرارا مصيريا لكل طرف، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هناك قوى إقليمية ودولية عديدة، تدعم هذا الطرف أو ذاك، ولا تخفي مصالحها وأطماعها في السودان براً، بما يملك من خيرات وفيرة، وبحراً بما يمتلك من موانئ متميزة، إلى جانب استخدامه كورقة إقليمية مهمة في مواجهة مصر أو ليبيا، وأهميته الاستراتيجية للقوى الكبرى في صراعها الدائر على إعادة تقسيم العالم الآن.
وإذا كان دقلو أو حميدتي، يحاول استخدام تعبير مواجهة (الإسلام الراديكالي) في مغازلة الغرب والشرق لدعمه على اعتبار أنه يواجه التطرف والإرهاب، فإن البرهان يستخدم تعبير (الشرعية والسلطة الرسمية) أملاً في وقوف المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي بشكل خاص مع القانون والنظام، إلا أنه يبدو واضحا أن الطرفين قد وقعا ضحية مؤامرات إقليمية ودولية كبرى، لن يضار منها سوى شعب السودان الشقيق، وإلى أجل غير مسمى.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
اللواء محمد رشاد
وكيل المخابرات السابق
إرسال التعليق