دخان في إسرائيل ولا نار في السعودية
د. جمال زحالقة
توالت التصريحات والتسريبات والبيانات والتحليلات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة حول مسألة «التطبيع مع السعودية»، وعبّرت قيادات إسرائيلية وازنة عن رأيها بأن الأمر ممكن وحتى ممكن جدا. وذهب المحللون إلى أن «نافذة الفرص» ستبقى مفتوحة حتى نهاية العام الحالي، حيث ستبدأ بعدها معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي يُرَكّز فيها الاهتمام على الشؤون الداخلية.
وقد عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أكثر من مناسبة في الآونة الأخيرة عن رغبته القوية في التوصل إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية، واضعا ذلك في رأس سلم أولوياته، إلى جانب العمل لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. أما الولايات المتحدة فقد أكدت بأنها هي الأخرى معنية جدا بتطبيع إسرائيلي سعودي. وقام مسؤولون أمريكيون بمحاولات وساطة وإقناع مع التوضيح بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة ولن تتركها «لقمة سائغة» للصين وروسيا وإيران. أما المملكة العربية السعودية فقد وضعت شروطا من الوزن الثقيل لا يمكن أن تقبل بها حكومة نتنياهو تبعا لعقيدتها السياسية، وإنْ قبلتها فسوف تسقط فورا، ولا يمكن أيضا أن تقبل بها الإدارة الأمريكية لاعتبارات استراتيجية سياسية، وإنْ قبلها جو بايدين فهو لن يستفيد بل سيخسر سياسيا داخل الحزب الديمقراطي وفي قاعدته الانتخابية. ويمكن اعتبار الموقف السعودي الحالي بأنه رفض دبلوماسي للإلحاح الأمريكي.
مطلوب من أمريكا
تناقلت وسائل الإعلام خبرا عن قرب إيفاد طاقم نتنياهو المقرب إلى الولايات المتحدة، لبحث مسألتين: الأولى هي التطورات بشأن الملف النووي الإيراني، والثانية موضوع «التطبيع» مع السعودية. ويشارك في الوفد وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، الذي شغل في السابق منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة ويحظى بثقة نتنياهو (الذي يشك في الجميع تقريبا)، ومستشار الأمن القومي، تساحي هنيغبي، الذي تربطه بنتنياهو علاقات طويلة ووثيقة. ويمكن اعتبار كل منهما بمثابة مبعوث شخصي لنتنياهو، وليس مجرد شاغل لمنصب ما في الحكومة الإسرائيلية. لم يُحدَد بعد موعد سفر الطاقم، ومن المتوقع أن يتم خلال الأسبوع المقبل.
عشية الزيارة وردا على أسئلة وجهت إليه، صرح هنيغبي، الذي يشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي: «المهم أن تقود الولايات المتحدة تحركا يفضي الى إضافة السعودية الى اتفاقيات أبراهام، وإذا حدث هذا فسيكون ذلك تحولا تاريخيا دراماتيكيا يغيّر خارطة الشرق الأوسط ويعزل إيران ويعطي الشرعية لكل دولة عربية مرتبطة بالغرب لإنشاء علاقة مع إسرائيل. ما يريده السعوديون ليس (مطلوبا) من إسرائيل، بل من الولايات المتحدة، كما طلبت وأخذت بقية الدول التي وقعت على اتفاقيات أبراهام». هنغبي قال أيضا: «لم تكن هناك محادثة مباشرة بين نتنياهو وبن سلمان في الأشهر الأخيرة» وأضاف: «يوجد في السعودية زعيم لم يشهد العالم مثله من قبل. رجل قاد بلاده باتجاه مختلف 180 درجة، زعيم جريء وثوري، وإذا اقتنع بالتطبيع فسيحصل ذلك. أعتقد أن هناك فرصة لأن يحدث ذلك».
وهذا الأسبوع عقد «معهد دراسات الأمن القومي» الإسرائيلي آي إن إس إس، يوما دراسيا بعنوان «السعودية بين إيران وإسرائيل»، تحدث فيه رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، والمدير الحالي لوزارة الخارجية الإسرائيلية، رونين ليفي، وقائد شعبة المخابرات العسكرية، الجنرال احتياط تمير هايمن، وعدد من الخبراء في الشؤون السياسية والأمنية. وخلاصة القول في هذا اليوم الدراسي أن حصول التطبيع مع السعودية «ممكن جدا». وهذا عمليا ما قاله رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، الذي كان من أبرز مهندسي «اتفاقيات أبراهام». فبعد أن رد على سؤال طرحه على نفسه فيما إذا التقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أجاب قائلا: «أنا لا أنفي ولا أؤكد». وأضاف بأن عودة العلاقات الثنائية بين السعودية وإيران لا تؤثر على فرص «التطبيع»، التي قال عنها: «وأنا استند الى دراية شخصية في الموضوع (التطبيع). هذا ممكن جدا. إذا أديرت الاتصالات بشكل صحيح مع ضمانات أمريكية، ورافقتها مقولات معينة في الشأن الفلسطيني، وليس بالضرورة سياسة عملية. هذا ممكن. هناك قيادات جريئة في الشرق الأوسط ويمكن معها بناء أمور عظيمة وهامة».
المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، رونين ليفي، عرض في المؤتمر خريطة للعالم مقسمة الى دول بالألوان، لها علاقات رسمية علنية بإسرائيل، ودول باللون الأبيض، ليس لها علاقات مع إسرائيل، ثم قسم الأبيض إلى أبيض ودي وأبيض معادٍ، وقال بأن دول الأبيض الودي هي «هدفنا»، ووعد بخارطة في الأشهر القريبة تتقلص فيها المساحات البيضاء. ونوه ليفي بأن هناك التزاما أمريكيا بتوسيع «السلام» وبأن الاتفاقيات المقبلة لن تكون مع دولة واحدة وإنما مع دولتين أو أكثر. وتابع: «السلام مع السعودية خطوة مهمة، لكن علينا ألا نهمل مسارات في دول أخرى معها يمكننا تحقيق الإمكانيات قبل السعودية، وهي لا تقل أهمية عن السعودية».
وجرى تحليل كلامه لاحقا بأن جهود التطبيع مع السعودية يجب ألا تكون على حساب تطوير العلاقات مع الإمارات. وناهيك من توجيه إهانة دبلوماسية الى السعودية بأن هناك دولا أهم منها، وقد يكون الحديث عن دول أخرى، في هذا السياق، دليل يأس وإحباط من إمكانية التوصل الى اتفاق تطبيع معها في المستقبل المنظور، بعكس التفاؤل الذي أبداه غيره من المسؤولين الإسرائيليين.
أقرب للرفض
في مقابل وابل التصريحات والتحليلات الإسرائيلية، التي ذُكر هنا جزء بسيط منها، لم يصدر عن المملكة العربية السعودية أي رد رسمي أو غير رسمي. ويبدو أن السعودية «مستغنية» عن التطبيع مع إسرائيل وهي لم تعد تقبل بالإملاءات الأمريكية، خاصة بعد أن وطدت علاقتها بالصين وبروسيا وبالهند، وبعد أن أعادت علاقاتها مع إيران. من هنا فإن الشروط السعودية للتطبيع هي أقرب الى الرفض ورمي للكرة في الملعب الأمريكي. ووفق ما نشرته وسائل الإعلام الدولية، فإن السعودية تشترط:
أولا، من إسرائيل: عودة المفاوضات مع الفلسطينيين على أساس مبادرة السلام العربية للتوصل الى حل نهاية الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وكذلك وقف الاستيطان والاعتداءات على الأقصى.
ثانيا، من الولايات المتحدة: وقف تجميد صفقات الأسلحة، وتزويد المملكة بأسلحة متطورة للدفاع الجوي وأنظمة مضادة للصواريخ وطائرات شبح من طراز أف 35.
ثالثا، من إسرائيل: وقف معارضة أنصار إسرائيل في الكونغرس لصفقات أسلحة مع السعودية.
رابعا، من الولايات المتحدة: دعم مشروع تخصيب اليورانيوم وإنتاج الطاقة النووية في السعودية.
خامسا، من الولايات المتحدة أيضا: عقد اتفاق تحالف استراتيجي بنفس معايير حلف الناتو، بحيث تضمن الولايات المتحدة أمن وسلامة المملكة العربية السعودية.
الأفضل، طبعا، أن يكون هناك موقف سعودي علني وصريح وواضح برفض التطبيع مع الدولة الصهيونية، وعدم التستر بالشروط. وفي كل الأحوال لا بد من تكذيب ما يروج له قادة إسرائيليون من أن السعودية تكتفي بكلمات ضبابية عامة في الشأن الفلسطيني، كما قال رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، الذي من الواضح أنه لا يتحدث بصفته الشخصية فقط. والخطير أيضا أن تكون «الموافقة بشروط»، مدخلا لمنح الشرعية لتطبيع دول «بيضاء» أخرى، تقوم إسرائيل باستهدافها. ووفق وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين تشمل هذه الدول، إضافة الى السعودية، كلا من إندونيسيا وموريتانيا وجيبوتي والصومال والسودان والنيجر وعمان وماليزيا.
المطلوب حقا هو ليس بحث إمكانيات تطبيع جديدة، بل إلغاء الاتفاقيات القائمة. لا يعقل أن يطبع العرب مع من يقتل وينهب ويدمّر ويشرّد ويحاصر وينكّل ويخنق الشعب الفلسطيني. في الماضي كانوا يقولون لا يمكن فعل شيء في ظل الهيمنة الأمريكية التامة على المنطقة، ولكن ما قولهم والتأثير الأمريكي قد انكمش وتراجع، وأصبحت هناك بدائل سياسية وأمنية واستراتيجية واقتصادية، يمكن اعتمادها، ما زاد من مساحة المناورة وإمكانيات اتخاذ القرار المستقل، ولم يعد هناك مبرر لعدم اتخاذ قرار مستقل مع فلسطين وضد العدوان عليها.
كاتب وباحث فلسطيني
إرسال التعليق