مروحيات في مهب الجولان
د. جمال زحالقة
بعد هبّة شعبية غاضبة في الجولان السوري المحتل، احتجاجا على نصب مراوح ضخمة لإنتاج الكهرباء، على أراضي قرية مجدل شمس ومحيطها، اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى الإعلان عن تجميد العمل في إنشاء المروحيات حتى نهاية أيام عيد الأضحى المبارك مطلع الأسبوع المقبل.
وقد أثار هذا القرار استياء وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي اتهم الحكومة التي هو عضو فيها، بالخضوع للعنف. ومن المتوقّع أن تجدّد شركة «إينرجيكس»، صاحبة مشروع المروحيات، عملها بعد انتهاء فترة التجميد، إلّا إذا، وهذا مستبعد حاليا، جرى إصدار أمر جديد بوقف العمل. وأعلنت قيادة الهبة الشعبية في الجولان المحتل عن تصميم الأهالي على منع تركيب المروحيات على أراضيهم وعلى حساب صحّتهم وحقوقهم الإنسانية والوطنية. ويعرف كل من يعرف الجولان والجولانيين والجولانيات بأن الهبة لن تخبو وأن الناس التي خرجت من بيوتها للتظاهر والمواجهة لن تهدأ ولن تسكن حتى تنال مطلبها وتحقق هدفها، الذي تحركت لأجله، ونحن على عتبة ارتطام لا بدّ منه، بين عنف الاحتلال، ودفاع أهل الجولان عن حقّهم.
قصة المروحيات
منذ احتلال الجولان تقوم إسرائيل باستغلال ثرواته الطبيعية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، الذي يحرّم ذلك على القوّة المحتلة. والثروات التي تستغلها إسرائيل هي الأرض والمياه (بما فيها الثلوج) والنفط والرياح والموقع الطبيعي. وحين تقوم دولة الاحتلال بنصب المروحيات فهي تستغل ثلاث ثروات: الأرض والرياح والموقع الطبيعي. وقد نصبت إسرائيل سابقا مروحيات صغيرة الحجم في مطلع التسعينيات، وعادت في عام 2020 بمشروع لنصب 25 مروحية ضخمة يصل ارتفاعها الى 220 مترا، أي ما يعادل علو عمارة بارتفاع ستين طابقا، وهي أعلى المروحيات البرّية في العالم. وقامت شركة المروحيات «اينرجيكس» باستدراج أهالي من قرى الجولان ليوقّعوا على عقود بتأجير أرضهم لمدة تزيد عن 20 عاما، وأكدت لهم بأن طاقة الرياح هي طاقة نظيفة لا تلحق أذى بأحد، وبأن أرضهم لا تصادر، بل تؤجّر. ويعني المشروع عمليا إخراج مساحة 4500 دونم من الأراضي الزراعية لقرى مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا.
الطاقة النضالية الجبارة في الجولان المحتلة ستنفجر في وجه المحتل إن هو حاول أن يقيم مستوطنة المروحيات فوق الأرض السورية المحتلة
لقد طرحت، في السنوات الأخيرة، مشاريع عديدة لنصب مروحيات في أماكن مختلفة داخل الدولة الصهيونية، لكن لجان التخطيط القطرية واللوائية، ألغت المخططات بسبب الأضرار البيئية. أمّا في الجولان، فقد صادقت هذه اللجان على مخطط المروحيات وتجاهلت الاعتبارات البيئية الوازنة، في سبيل ما هو أهم بنظرها وهو محاصرة الوجود العربي السوري في الجولان، وحرمان قرى المنطقة من التمدد العمراني اللازم لمجاراة التكاثر السكّاني، وتوسيع المجال للاستيطان وتهويد الجولان بالكامل مع إبقاء القرى السورية كبقع صغيرة قدر الإمكان. لقد تجمّعت مؤخّرا معلومات مؤكّدة حول أضرار مشروع المروحيات، ما دفع الغالبية الساحقة من الذين وقّعوا عقود تأجير إلى إبلاغ الشركة بتراجعهم عن الاتفاقيات معها، وتبين أن هناك ثغرات كثيرة في العقود تجعل هذا التراجع شرعيا ومشروعا، ومنها أن توقيع على عقد كهذا يستلزم الحصول على موافقة جيران صاحب الأرض من كل الاتجاهات، كما أن المعلومات التي طرحتها الشركة بشأن الأضرار الصحية على سكان المنطقة كانت غير دقيقة ومضلّلة، واتهمت الشركة القوى الوطنية في الجولان المحتل بأنّها هي التي ضغطت وأرغمت الناس على التراجع.
في الحقيقة كل أهل الجولان يدركون خطورة مشروع المروحيات: أولا لأنه مشروع احتلالي يندرج ضمن فرض السيطرة الإسرائيلية وهو لا يختلف عن أي مستوطنة. فهو مرفوض بوصفه تجسيدا للاحتلال قبل أي اعتبار آخر، وثانيا، هو مرفوض لأنّ الأهالي يعارضونه، وقد أثبتوا ذلك في مظاهرات الغضب التي اجتاحت الجولان رفضا لمشروع يفرض عليهم فرضا، وثالثا إن مجرد وجود المروحيات يمنع توسّع مساحة البناء في قرية مجدل شمس ويساهم في خنقها ومنع تمددها الطبيعي في الاتجاهات كافة، ورابعا، يلحق المشروع ضررا بالغا بالبيئة الجولانية الطبيعية، حيث يعرّض الطيور المهاجرة لخطر الإبادة، خاصة أن الجولان محطّة مهمة في هجرة الطيور السنوية. أمّا بخصوص الضرر المباشر، والضجيج المنبعث من المروحيات الضخمة، فهي تبتعد عن القرى المجاورة مسافة 1500 متر، في حين أن المسافة الآمنة تصل إلى ثلاثة كيلومترات. أمّا الحساب الدقيق وفق المعايير البيئية والصحية الدقيقة لمنظمة الصحة العالمية فهي مركّبة من عدّة مكوّنات أهمها ارتفاع المروحيات وعددها وكثافتها والظروف المحيطة بها. المروحيات المخطط لها لا تفي بالمعايير اللازمة وضجتها، التي تصم الآذان، تستمر على مدى الليل والنهار وأهالي المنطقة يعيشون فيها طيلة الوقت، أي أن التعرّض للصوت المرتفع المؤذي سيكون متواصلا لسنوات، والأضرار الصحية المتوقّعة لن تكون بسيطة. المهم أن المجتمع في الجولان موحّد في موقفه الرافض لمشروع المروحيات، وموحّد أيضا في الإصرار على إفشاله، مهما كلّف الثمن. وفي المواجهات الصاخبة بين شرطة الاحتلال والمتظاهرين السوريين في الجولان جرح أكثر من 30 مواطنا، وكانت جراح ستة منهم بالغة. وتكتسب هذه الوحدة الكفاحية معاني خاصة، بعد أن مزّق صدى الحدث السوري في العقد الأخير المجتمع الجولاني بين مؤيّد ومعارض. الطاقة النضالية الجبّارة في الجولان المحتلة ستنفجر في وجه المحتل إن هو حاول أن يقيم مستوطنة المروحيات فوق الأرض السورية المحتلة، ولا مبالغة في القول إن الأيام حبلى. قد يقول البعض إن الحديث يجري عن مشروع اقتصادي معزول عن السياسة، وهذا الكلام مردود على أصحابه، لأنه مشروع احتلالي بامتياز، وللدلالة على البعد السياسي الواضح للمشروع، يكفي أن نقرأ ما جاء في بيان الشركة حول المظاهرات: «الشركة واثقة ومتأكّدة من أن رئيس الحكومة وحكومة إسرائيل سوف ينفّذان قرارات الحكومة ويطبّقان السيادة السياسية والقانونية لدولة إسرائيل في الجولان، ويوفّران كل ما هو لازم لتنفيذ المشروع حسب القانون. ليس من المعقول أن يقوم متطرّفون سوريون ومؤيّدون لسوريا.. بينهم أسير محرّر، بترهيب الأهالي وبترويع أصحاب الأراضي الخاصّة، الذين تعاقدوا مع الشركة بشكل قانوني». حتى بالنسبة للشركة التجارية، القضية ليست اقتصادية فحسب، بل هي تطبيق لما يسمى بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
انقلاب ديموغرافي
لعل أخطر ما في مشروع المروحيات أنّه جزء من مشروع الاحتلال لتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي الجولان المحتل. فقد وصل عدد المستوطنين الإسرائيليين في الجولان إلى 29 ألفا، وهو بالضبط عدد سكان القرى السورية فيه. وتسعى إسرائيل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، أن الدولة الصهيونية تخطط للوصول إلى 100 ألف مستوطن خلال عشر سنوات. إسرائيل قلقة من عدم اعتراف العالم بضم الجولان إليها، وهي تسعى إلى حسم الموضوع عبر تكثيف الاستيطان وفرض الأمر الواقع على الأرض، بحيث يستحيل الانسحاب وتستحيل معه عودة مئات الآلاف من النازحين المنسيين، الذين جرى تهجيرهم وتهجير عائلاتهم خلال حرب 1967 من حوالي 200 قرية ومزرعة. لقد عانت قضية الجولان من التهميش ومن التعتيم عليها، في ظل انشغال المنطقة والعالم بقضايا أخرى. وتكتسب هبّة الجولانيين الأخيرة أهمية كبيرة لأنها أعادت قضيتهم إلى الواجهة وأحرجت الحكومة الإسرائيلية، ودفعتها إلى تجميد مشروع المروحيات خلال أيام عيد الأضحى المبارك. ولكن في الأسبوع المقبل وما يليه، ستجري محاولات لنصب المروحيات، ومن المؤكّد أن أهل الجولان لن يسمحوا بذلك، وكما تعهّدوا وهم يوفون بتعهداتهم، سيواجهون بأجسادهم هذه المحاولات. هنا تقع مسؤولية كبيرة على النظام السوري وعلى النظام العربي كلّه، بإسناد ودعم نضال أهل الجولان وطرح قضيّتهم في المحافل الدولية ذات الصلة. فأرض الجولان سورية، وأرض الجولان عربية، فلا تتركوا الجولان وحيدا!
إرسال التعليق