ماذا يجري في غزة!
د. سنية الحسيني
لا يمكن لعقل أن يتخيل أو لعين أن تتحمل قسوة المشاهد الآتية من قطاع غزة، عائلات بأكملها تباد مقطعة الأوصال، تحت ركام منازلها أو في ساحات وجنبات المستشفيات أو في الشوارع والأزقة، فيواجه شعب أعزل بصدره العاري، أعتى أنواع الصواريخ والقذائف الأميركية الموجهة بارادة إسرائيلية. سقط أمس وحدة مئات الشهداء في ارتفاع غير مسبوق في أعدادهم، نصفهم على الأقل قتل في مستشفى المعمداني وسط مدينة غزة. وعلى مدار ١٣ يوم، تتكرر مشهد اعدام المدنيين عن بعد، في ظل منع الاحتلال لوصول الطعام والماء والكهرباء والوقود لسكان القطاع، وكلها جرائم واضحة الأركان، ترتكب بدعم أميركي غربي، وصمت أو عجز دولي أو عربي. هناك عدد من الملاحظات من المفيد طرحها في هذه اللحظات الحرجة:
في بداية هجوم الاحتلال العسكري الحالي على قطاع غزة، والذي لا يعد الأول لكنه الأعنف، طلبت سلطات الاحتلال من مصر فتح معبر رفح البري، الممر الوحيد المتاح أمام الغزيين للتحرك خارج القطاع. وناشدت سلطات الاحتلال الغزيين للخروج إلى مصر، للنجاة من هول ما سيحل بالقطاع، مع وعود متناثرة باعادتهم بعد انتهاء الهجوم. رفض الفلسطينيون تلبية الدعوة كما حذرت مصر من تبعاتها. فبعد أكثر من سبعة عقود، يكرر الاحتلال الاسرائيلي، ما أقدمت عليه العصابات الصهيونية الارهابية وحكومة إسرائيل في أعقاب الإعلان عن نشأتها، من جرائم ومجازر بحق السكان الفلسطينيين العرب في مدنهم وقراهم، كمقدمة لاجبارهم على الرحيل عن وطنهم. واجبر ما بين ٧٥٠ ألف و٩٠٠ ألف فلسطيني للنزوح عن أرضه، ما شكل في حينه أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. ورفضت إسرائيل عودتهم مرة أخرى، بعد انتهاء المعارك. وكررت إسرائيل ذات السيناريو في العام ١٩٦٧، في أعقاب الهزيمة العربية، واحتلالها لباقي فلسطين، فبعد سقوط قطاع غزة والضفة الغربية، أقدم الاحتلال على ارتكاب مجازر وانتهاج سياسة لترهيب الفلسطينيين، فاجبر ما يقرب من نصف مليون فلسطيني آخر للرحيل من قطاع غزة والضفة الغربية، فحكم الاحتلال على أكثر من نصف الشعب الفلسطيني بالعيش في اللجوء والمنفى مدى الحياة.
لا يمكن للفلسطينيين عزل ما يحصل لهم اليوم في غزة عن المجازر التي اقترفت بحق آبائهم وأجدادهم في الماضي وخلفت تهجيرهم قسريا بشكل دائم، عن مخططات الاحتلال اليوم، والتي تعكسها تصريحات قياداته وسياسات وسلطاته. فلم تغب قضية تهجير الفلسطينيين عن قطاع غزة عن ذهن حكومات الاحتلال المختلفة. وقد يعكس ما صرح به بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل والمسؤول الأول عن الهجوم على غزة اليوم، بأن “حرب الاستقلال لم تنته”، مخططات حكومته ونواياها. ويقصد نتنياهو بـ “حرب الاستقلال” تلك التي بدأت في العام ١٩٤٨، وامتدت في العام ١٩٦٧، فاعتبر هجومه على غزة اليوم امتداد لتلك الحرب، والتي يتطلع فيها لتهجير قطاع غزة وافراغه من سكانه. ويستخدم نتنياهو التضليل الذي يجيده باحتراف اليوم لتنفيذ مخططات حكومته، عندما ادعى أن رجال المقاومة الفلسطينية قاموا بقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، لإثارة الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين، لضمان صمتهم أمام المجازر التي سيرتكبها بحقهم، ومخططات تهجيرهم خارج وطنهم.
طرح الاحتلال صراحه في بداية هجومه الحالي على غزة، والذي بدأ مطلع الاسبوع الماضي، تهجير سكان غزة إلى سيناء المصرية، ففي التاسع من الشهر الجاري نصح ريتشارد هيشت كبير المتحدثين في قوات الاحتلال الإسرائيلي سكان غزة بالتوجه إلى مصر. كما طالبت منشورات القيت جواً من قبل قوات الاحتلال على سكان شمال قطاع غزة بمغادرة مساكنهم والنزوح نحو الجنوب، والغريب ورغم خروج عدد من السكان نحو الجنوب، واصل طيران الاحتلال قصف الجنوب وقتل النازحين في العديد من الغارات. جاء الرد المصري على دعوات لاحتلال للغزيين بالنزوح نحو مصر بعد أقل من ساعتين على تصريحات المسؤول الاسرائيلي، فأكدت مصادر أمنية مصرية بأن إسرائيل تخير الغزيين ما بين الموت تحت القصف الإسرائيلي أو النزوح لمصر، في ظل مخطط لإجبارهم على ترك قطاع غزة.
ولا تعد فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء بالجديدة، فقد طرحت منذ خمسينيات القرن الماضي من قبل الأمم المتحدة، وأسقطها الفلسطينيين برفض حاسم. بعد احتلال القطاع في العام ١٩٦٧، أعيد طرح ذلك المشروع، ففي العام ١٩٦٨ بحثت إحدى لجان الكونغرس الأميركي خطة للتهجير الطوعي لنقل ٢٠٠ ألف فلسطيني من غزة إلى عدد من دول العالم، كما وضعت مخططات لتطوير العريش، لاغراء الفلسطينيين للرحيل اليها، وطردت سلطات الاحتلال بالقوة عددا من الفلسطينيين لمصر في العام ١٩٧٠ تحت ذريعة المقاومة، كما بقيت الفكرة حاضرة خلال ثمانينيات القرن الماضي فجرت محاولات للضغط على الرئيس حسني مبارك، الا أن ذلك كله لم ينجح في تهجير سكان القطاع. تكرس ذلك التوجه بعد توقيع اتفاق أوسلو، وطرحت فكرة طرد الغزيين من بلدهم أكثر من مرة، فعلى سبيل المثال، في العام ٢٠٠٣ طلبت إسرائيل من مصر التنازل عن أراض ملاصقة لقطاع غزة لتوطين الفلسطينيين. كما طرح أيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي في العام ٢٠٠٨ فكرة مشابهة، وأشار الرئيس المصري حسني مبارك إلى اقتراح بذات التوجه طرحه عليه نتنياهو في العام ٢٠١٧. كما شجعت الحكومة الإسرائيلية في العام ٢٠١٩ الفلسطينيين على مغادرة القطاع طواعية، مؤكدة استعدادها لترتيب حركة مغادرتهم، وفتح المطارات الإسرائيلية لهم لهذا الغرض. ويخضع الاحتلال قطاع غزة منذ العام ٢٠٠٦ لحصار خانق، أوصل الوضع الإنساني للقطاع لحافة الانهيار، فوصلت نسبة البطالة إلى حوالي ٧٠ في المائة، وتخطت نسبة الفقر أكثر من ٦٥ في المائة. كما كان مخطط تهجير الغزيين ضمن مخططات صفقة القرن التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العام ٢٠١٩.
من يفكر في تهجير ٢ مليون فلسطيني من غزة لن يتوانى بتهجير ٣ مليون آخرين من الضفة الغربية عندما تحن اللحظة المناسبة، وعلى الأردن أن تعي أن خطر “الوطن البديل” لا يزال حاضراً في مخططات المحتل، واستمرار حرب الاستقلال التي تحدث عنها نتنياهو لا تتعلق فقط بقطاع غزة، فالضفة الغربية تعد أول الأولويات. ومن يتابع تطور الأوضاع في الضفة يجزم بأن القادم أسوء، وقد يكون أسوء مما قد يحصل في القطاع. فإسرائيل تسيطر فعلياً على أكثر من ثلثي أراضي الضفة الغربية، وتنشر مستوطناتها في قلب تلك المنطقة وتمدها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق حتى الغرب، فتقع تلك المستوطنات بين المدن والقرى الفلسطينية، وتفصلها عن بعضها البعض. ويضع الاحتلال بالفعل عوازل وبوابات ضخمة على مدخل كل قرية ومدينة فلسطينية، وتقوم باغلاقها بالفعل وعزلها عندما يجد أي طارئ أمني في البلاد. كما زرع الاحتلال مئات آلاف المستوطنيين المسلحين في قلب تلك المستوطنات، وتؤكد مخططاتهم المستمرة بزيادة عددهم وتسليحهم واعتداءاتهم المتكررة على الفلسطينيين بأن القادم خطير. يأتي ذلك في ظل احكام سيطرة سلطات الاحتلال أمنياً وعسكرياً على الفلسطينيين، وسيطرتها بشكل كامل على الحدود والحركة داخل تلك الأراضي المحتلة. بعد احتلال عام ١٩٦٧، بدأت سلطات الاحتلال تعمل على تسهيل انتقال الفلسطينيين بشكل عفوي نحو الأردن وكذلك مصر، ودشنت سياسة الاستيطان ونقل اليهود للمستوطنات في قلب الضفة الغربية، وبعد أوسلو صعد الاحتلال من سياسة التمدد الاستيطاني ونقل المستوطنيين وتسليحهم، في ظل سيطرة أمنية وقمع شديد للفلسطينيين، وأي مقاومة تظهر بينهم.
في ظل تعاون صارخ للولايات المتحدة مع إسرائيل في هجومها الحالي على المدنيين في غزة، ودعم رسمي غربي مطلق لإسرائيل، فلم تبال فرنسا وبريطانيا وألمانيا بدماء الفلسطينيين الأبرياء المنهمرة في غزة، وأيدت ودعمت إسرائيل في هجماتها على العزل في غزة، علينا العودة قليلاً للوراء. هذا العالم الغربي هو الذي دعم توصية الجمعية العامة الخاصة بتقسيم فلسطين في العام ١٩٤٧، والذي تستند عليه إسرائيل في شرعية وجودها، رغم أنه توصية غير ملزمة. وهي ذات التوصية التي أعطت الضوء الأخضر للعصابات الصهيونية المدربة والمسلحة من قبل بريطانيا بشن حربها ضد الفلسطينيين، حيث انتهت تلك الأحداث بنكبة الفلسطينيين والاعتراف بإسرائيل. ومع أن قبول عضوية إسرائيل من قبل الأمم المتحدة في حينه اشترطت عودة اللاجئين، الذين هجروا عن مدنهم وقراهم، لم تلتزم إسرائيل بهذا الشرط يوماً، مع بقاء الدعم الغربي المطلق لها. وبعد احتلال إسرائيل مرة أخرى ما تبقى من فلسطين في العام ١٩٦٧، وصدور قرار مجلس الأمن، والذي يعد قرارا ملزما، تستوجب مخالفته تفعيل العقاب ضد الدولة المعتدية، لم تستجب إسرائيل ولم تنسحب من الأرض المحتلة، في ظل استمرار الدعم الأميركي الغربي. وبعد توقيع اتفاق أوسلو في العام ١٩٩٣، ساندت الولايات المتحدة والغرب إسرائيل للتحايل على الفلسطينيين، فمنحت إسرائيل السلطة الفلسطينية حكماً ذاتياً لادارة حياة السكان المدنيين، بمساعدة الأموال والدعم الغربي، وتغاضت عن مخططات إسرائيل لتغيير واقع القدس وأراضي الضفة الغربية، كي يستحيل معها على الأرض تطبيق حل الدولتين. واليوم يقف الغرب ضد أي مقاومة فلسطينية لتلك المخططات، وهذا الاحتلال الصريح للأراضي الفلسطينية، وهو حق منحه القانون الدولي للشعوب التي تخضع تحت الاحتلال، خصوصاً في ظل انعدام الأفق بحل سياسي للفلسطينيين، على مدار سنوات أوسلو الطويلة. ويصف الغرب المقاومة الفلسطينية للاحتلال بالإرهاب، ويدعم حق الاحتلال بالدفاع عن نفسه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الا بعد ذلك مهزلة ووصمة عار ستلاحق هذا العالم الغربي المنحاز لآخر الزمان.
وفي ذات سياق الانحياز الغربي ومؤسساته الدولية، وتماماً كعجز مجلس الأمن عن الزام إسرائيل بهدنة إنسانية اليوم، فالحصول على الماء والطعام والدواء والوقود حق مشروع للمدنيين أثناء الحروب في القانون الدولي، كعجزها عن إلزام إسرائيل بالانصياع لقرار واحد من مئات قرارات الأمم المتحدة التي تنص على حقوق الفلسطينيين المشروعة على مدار عقود، تقف المحكمة الجنائية متفرجة على انتهاكات جسيمة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تقترف بحق المدنيين في غزة اليوم، وهي ذات المحكمة التي تحركت ضد روسيا بعد أيام قليلة من هجومها على أوكرانيا، المدعومة بقوة من قبل الولايات المتحدة والغرب. ويعتبر التهجير القسرى والنقل غير المشروع جريمة حرب، حسب اتفاقية جنيف الرابعة وميثاق روما الأساس، اذ لا يجوز أن يأمر المدنيين في النزاع المسلح بالنزوح كلياً أو جزئياً لأسباب تتعلق بالنزاع. وتتخطى جريمة التهجير القسرى جريمة حرب إلى جريمة ضد الإنسانية، عندما ترتكب تلك الجريمة في سياق هجوم واسع النطاق وممنهج يستهدف المدنيين، كما يحصل الآن في غزة.
آخر الملاحظات تتعلق بالدول العربية، ورغم خيبة الأمل التي واجهها بايدن في اقناع الدول العربية بإدانة حركة حماس بالاسم، باستثناء دولة الامارات العربية، فأكد السيسي على ضرورة تفهم ذلك التطور العسكري في سياق انعدام أفق الحل للفلسطينيين على مدار سنوات الاحتلال الماضية، وركز ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على ضرورة وقف “العمليات العسكرية التي أودت بحياة الأبرياء”، كما تواصل الملك السعودي مع الرئيس الإيراني، وأوقف السعوديون المحادثات حول تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وانسجام موقف الأردن مع مواقف مصر والسعودية، الا تلك المواقف لا تتناسب مع الحدث في غزة. فدماء الأطفال التي تسفك في غزة دماء عربية مسلمة، وتمس الكرامة العربية، وقد يكون الغرب اليوم بحاجة لأن يتعلم درساً سياسياً من العرب، ودون تحمل أي ثمن عسكري، في ظل اضطراب المعادلات خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وحاجة الغرب للدعم العربي في هذه الحرب. فالتحشيد العربي لاتخاذ مواقف سياسية من أمريكا وإسرائيل، وحتى تلك الدول الغربية التي تدعم سفك دماء الفلسطينيين، والتنسيق مع الصين وروسيا وإيران ودول إسلامية أخرى، والتهديد بأثمان سياسية واقتصادية على الغرب أن يدفعها، قد يرسخ معادلات جديدة أكثر وضوحاً في المنطقة.
إرسال التعليق