الفلسطينيون والعدالة الضائعة
د. سنية الحسيني
في معركة غير متعادلة، صعب أن نطلق عليها صفة حرب، لأن الأخيرة تكون بين قوتين متعادلتين، وليس ذلك هو الحال في العدوان الذي يشنه جيش الاحتلال اليوم ضد حركات المقاومة في غزة، يستمر العدوان على شعب أعزل بصمت عالمي، يكتفي بالمتابعة والتصريحات الجوفاء والقرارات الفارغة. أكثر من ١٨ ألف شهيد و٨ آلاف مفقود و٥٠ ألف جريح، لا يجد العلاج، تهدم غزة على رؤوس المدنيين، في استهداف مباشر للمستشفيات والمدارس والبنى التحتية الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة في القطاع. وخارج نطاق التصريحات، لم يتخذ أي اجراء حقيقي، لا من قبل دولة أو تحالف أو مؤسسة دولية يرغم إسرائيل على وقف هذه المجزرة، أو حتى يضمن وصول الحاجات الأساسية لاستمرار الحياة الإنسانية، الأمر الذي يعكس خللاً خطيراً في المنظومة الدولية الحالية، وتواطؤاً دولياً لتصفية القضية الفلسطينية. هذا التواطؤ وهذا الخلل ليسا جديدين، فلا يمكن الاختلاف حول طبيعة المعادلة السياسية الموجودة في فلسطين، فهي تقوم بين قوة قائمة بالاحتلال وشعب محتل، وبقيت ثابتة ومستمرة دون أي مبادرة دولية حقيقة لحل المعضلة الفلسطينية، لتسجل بذلك أطول تجربة احتلال في التاريخ الحديث، “الاحتلال المستدام”. تشكلت العديد من لجان التحقيق، وصدرت الكثير من التوصيات للجمعية العامة وقرارات مجلس الأمن، وذهبت العديد من الشكاوى للمحاكم الدولية، وجميعها تعكس حقاً بائناً وظلماً صارخاً، ومجتمعاً دولياً متواطئاً في تصفية القضية الفلسطينية.
من الصعب أن يعول الفلسطينيون على الأمم المتحدة، فرغم أنها حملت تطوراً عن العصبة التي جاءت بالانتداب البريطاني على فلسطين، وأقرت بإعلان بلفور، إلا ان الأمم المتحدة بدأت عهدها مع القضية الفلسطينية بتوصية غير ملزمة صادرة عن الجمعية العامة، تقسم أرض فلسطين بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود، الذين لجؤوا للبلاد، لتصبح بعد ذلك تلك التوصية أساساً لترسيخ وضع هؤلاء، والاعتراف بدولتهم، التي جاءت عبر المجازر والقتل والارهاب بحق سكان فلسطين الأصليين. كما أن الأمم المتحدة التي أصدرت قراراً ملزماً صادر عن مجلس الأمن في وقت يتعرض فيه الأمن والسلم الدوليين للخطر، يدعو لانسحاب القوات الإسرائيلية بعد احتلتها لباقي أرض فلسطين، وأراضي دول عربية أخرى في العام ١٩٦٧، لم تبادر لتنفيذه عبر تفعيل الفصل السابع. أكثر من خمسة عقود من الاحتلال للأراضي الفلسطينية وأراض عربية أخرى، ويحول الفيتو الأميركي لصالح إسرائيل والدعم الغربي دون محاسبة إسرائيل من قبل هذه المنظمة الدولية المسيسة خارج اعتبار القانون. فرغم اقرار عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومئات التوصيات الصادرة عن الجمعية العامة، ومنها تلك التي تقع تحت عنوان “الاتحاد من أجل السلام”، ومنها أيضاً تلك التي صدرت خلال العدوان الحالي على غزة، والعديد من نتائج لجان التحقيق التابعة لهذه المنظمة، والتي تقر جميعاً بانتهاكات إسرائيل وجرائمها بحق الفلسطينيين، والمخالفة جميعها للقوانين والقواعد الدولية، لم ينجح قرار واحد بردع هذه القوة القائمة بالاحتلال، وبقيت جميع تلك القرارات حبر على ورق، تفتقد لإرادة دولية حقيقية تترجمها لقوة تنفيذية لردع إسرائيل، في حين نجحت قرارات تلك المنظمة في حالات تتعلق بدول أخرى، لا تنعم بالدعم الغربي المطلق، في فرض عقوبات مختلفة عليها.
ارتكبت جرائم عديدة بحق الفلسطينيين بعد توقيع اتفاق أوسلو، بدءا من الانتفاضة الثانية مطلع الألفية الجديدة، ومروراً بالهجمات المتكررة على قطاع غزة، والعنف المنظم ضد المدنيين في الضفة الغربية، ولم تحاسب إسرائيل على ذلك ولو مرة واحدة، فتلك الجرائم التي يواصل الاحتلال ارتكابها في فلسطين عموماً، واليوم في غزة والضفة الغربية، تأتي بتشجيع من الولايات المتحدة والعالم الغربي الحاكم. في أعقاب الهجوم غير المسبوق على غزة، تشكل فريق من مئات المحامين والهيئات الحقوقية من مختلف أنحاء العالم بقيادة المحامي الفرنسي الشهير جيل دوفير وقدموا دعوى قضائية للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الشهر الماضي، تطالب بفتح تحقيق في ما يرتكبه جيش الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي. وليست هذه هي الجهة الوحيدة، أو المرة الأولى، التي تتقدم للمحكمة تطالبها بفتح تحقيق في الجرائم التي تقترف بحق الفلسطينيين، إلا أن تلك العدالة المنشودة تصطدم باستمرار بالمنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي تحول دون ذلك.
جاءت زيارة كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في أعقاب لقائه مع اسر المحتجزين الاسرائيليين في لاهاي، الذين وجهوا له دعوه لزيارة إسرائيل. قام خان بزيارة عائلات المحتجزين الإسرائيليين، وأكد اختصاص المحكمة على أحداث ٧ أكتوبر، وأكد في بيان مكتوب “إن تلك الهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء تمثل بعضا من أخطر الجرائم الدولية التي تهز ضمير الإنسانية، وسيعمل على محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم”، معرباً التزامه باجراء تحقيق، رغم أن إسرائيل ليست عضوا بالمحكمة ولا تعترف بسلطتها وترفض التعاون معها وتعارض وجود أي سلطات لها داخل حدودها. إلا أنه يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التحقيق مع مواطني الدول من غير الأعضاء في ظروف معينة، مثل حالات المتعلقة باتهامات تتعلق بارتكاب جرائم في أراضي الدول الأعضاء، خصوصا أن الأراضي الفلسطينية مدرجة ضمن أعضاء المحكمة الجنائية الدولية منذ العام ٢٠١٥.
وطلب خان الدخول إلى غزة، لكنه لم يسمح له من قبل سلطات الاحتلال، حيث أكد أن تفويض مكتبه يشمل هجوم حركة حماس على غلاف غزة، وأي جرائم ارتكبت في إطار الرد الإسرائيلي. وأعرب خان عن قلقه إزاء العدد الكبير من الضحايا المدنيين في غزة، مشددًا على ضرورة التزام إسرائيل بقوانين الحرب. كما أكد خان بأنه سيعجل بالتحقيقات في أعمال العنف التي ارتكبها مستوطنون بحق فلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، معتبراً أنه لا ينبغي النظر إلى الصراع على أنه رخصة لإيذاء المواطنين الفلسطينيين، في تجاهل لحالة الاحتلال التي يخضع لها الفلسطينيون، وتقر بها المحكمة ذاتها. لم يتطرق خان لتوصيف جرائم إسرائيل في هذه الحرب، والتي وصفها المدعي العام السابق للمحكمة لويس مورينو أوكامبو مؤخرًا بأنه “إبادة جماعية”، كما لم يشر للحصار المفروض على القطاع منذ سنوات والمستمر أيضاً خلال هذه الحرب ، كما لم يذكر الجرائم التي حددها المدعي السابق للمحكمة فاتو بنسودا، والتي ارتكبت في حروب سابقة.
في مطلع شهر شباط من العام ٢٠٢١، رأت الدائرة التمهيدية الأولى بـ “المحكمة الجنائية الدولية” أن المحكمة تملك اختصاصاً في الحالة الفلسطينية والتي تشمل غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وفي الشهر التالي أعلنت بنسودا فتح تحقيقاً في حرب غزة العام ٢٠١٤ وما بعدها، وسياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، معتبرة أن هناك أساساً معقولاً لأن تكون الأراضي الفلسطينية قد شهدت جرائم حرب. إلا أن خان الذي حل محل بنسودا كمدعي عام لـ المحكمة بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط، الذي أكد أنه، منذ لايته في حزيران من العام ٢٠٢١، قد شكّل فريقا متخصصاً لتعزيز التحقيق فيما يتعلق بالوضع في دولة فلسطين، إلا أن ذلك لم يقرن في الحقيقة بأي تطور على الأرض. وبدأت معاناة الفلسطينيين مع العدالة في هذه المحكمة منذ العام ٢٠٠٩ في أعقاب إيداع السلطة الفلسطينية إعلان الانضمام لعضوية المحكمة الجنائية للتحقيق بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، والذي قوبل برفض المدعي العام السابق لويس مورينو أوكامبو بحجة عدم تمتع فلسطين بمكانة “دولة”. بعد وصولها للمنصب، طلبت بنسودا المباشرة في تدقيق أولي في الوضع في فلسطين مطلع العام ٢٠١٥، من أجل تحديد ما إذا كانت المعايير المنصوص عليها في نظام روما لفتح تحقيق في الحالة الفلسطينية مستوفاة للشروط القانونية، وهو الأمر الذي استغرق ست سنوات لحسمه.
رغم أن المسؤوليات المنوطة بمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية تشمل النظر في جرائم محتملة والتحقيق بشأنها، وإصدار مذكرات توقيف، ومحاكمة المتهمين، إلا أنها محكمة مسيسة، اذ يمكن لمجلس الأمن تأجيل أو تجميد التحقيق أو أي تحرك للمحكمة لأجلٍ محدد يمكن تمديده، كما لا توجد ضمانات تلزم مكتب المدعي العام بالانتقال إلى مرحلة التحقيق والملاحقة بعد الانتهاء من الدراسة الأولية. ولم تنجح المحكمة حتى الان في استكمال تحقيق واحد ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل. فتجنّب المدعي العام للمحكمة أوكامبو الخوض في قضايا ضد الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان خلال فترة ولاياته، وواجهت المدعية العامة للمحكمة بنسودا وفريق عملها، خلال فترة ولايتها، عقوبات مالية وحظر سفر من قبل الولايات المتحدة، لتحرّكها ضد الولايات المتحدة لجرائم اقترفتها في أفغانستان والعراق. ويختص عمل هذه المحكمة بالتركيز على الدول الضعيفة، خصوصاً الأفريقية، فيمثل حالياً أمام المحكمة ستة وأربعون شخصًا في قضايا متعلقة بتسعة سياقات جميعها في أفريقيا، كما صدرت مذكرة توقيف في حق رئيس السودان السابق عمر البشير. كما تركز هذه المحكمة عملها ضمن سياق من خارج المنظومة الغربية. فبالرغم من أن أوكرانيا ليست عضو في المحكمة، إلا أنه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر شباط من العام الماضي، وطلب عدد من الدول من المحكمة فتح تحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا، بدعم من الولايات المتحدة، غير العضو أيضاً في المحكمة، لم يتطلب إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوى أسبوعين. في المقابل، جرى التقدم من قبل أكثر من دولة، وأكثر من مرة، للمحكمة بطلبات للتحقيق في جرائم ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، بعد انضمام فلسطين للمحكمة، وهي جرائم توثقها عبر السنوات العديد من مراكز ومؤسسات حقوق الإنسان المحلية والدولية ولجان تحقيق أممية، إلا أن المحكمة لم توجه أي ادانه او اتهام لإسرائيل، رغم كل تلك الجرائم.
إن ذلك لا يعني استثناء العمل الدبلوماسي والسياسي والقانوني من أدوات العمل الفلسطيني، ولكن على الفلسطينيين عدم الاعتماد على هذه الأدوات فقط، والتركيز على أدوات العمل الأخرى، والتي تحتاج كأولوية الاتحاد لمواجهة منظومة دولية متكاملة، لا تأبه بمصيرهم، خصوصاً في هذه اللحظات الحساسة من تاريخ القضية الفلسطينية.
إرسال التعليق