ترويكا صناعة الموت الإسرائيلية تتصارع على السلطة
د. جمال زحالقة
في الوقت الذي تواصل فيه الدولة الصهيونية حربها الإجرامية القذرة ضد أهالي غزة، يدور صراع على القيادة بين أعضاء ترويكا صناعة الموت الإسرائيلية: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت والوزير بلا وزارة بيني غانتس. ولهذا الصراع تأثير مهم، لكن غير حاسم حاليا، على مجريات الحرب، ولربما يزداد وزنه لاحقا، تبعا لتطور المعارك القتالية ولديناميكيات التفاعلات السياسية والحزبية في إسرائيل. ويساور القيادة الإسرائيلية عموما قلق على مصير الحرب وإسقاطاته، ليس على الجيش والدولة والمجتمع فحسب، بل عليها عموما وعلى كل شخص فيها. ومن الواضح أن كبار المسؤولين الإسرائيليين في الأمن والسياسة سيتعرّضون في مرحلة ما، بعد خمود المعارك الحربية الضارية، إلى مساءلة عن دورهم في الفشل الكبير في السابع من أكتوبر وحول أدائهم في إدارة الحرب على غزة.
لقد أعلنت القيادة العسكرية الإسرائيلية عن تحمّلها مسؤولية ما جرى من فشل وإخفاق، ومن شبه المؤكّد أنّها سوف تستقيل، أما القيادات السياسية، فهي لن تتنحى وتخوض معركة على السلطة وعلى كرسي الحكم. وترى هذه القيادات أن أملها في الحكم يتعلق بنتائج الحرب، ومن يكن مسؤولا عن الخسارة فيها سيخسر حياته السياسية وستلحقه «لعنات الفشل» مدى حياته وحتى بعدها. وعليه تجدر إضافة الأهداف الشخصية إلى أهداف الحرب المعروفة من استعادة الردع، وكي الوعي، وإرواء العطش للانتقام والدمار الشامل والإبادة الجماعية ومحو الكينونة السياسية الفلسطينية. القيادات الإسرائيلية تسعى للسلطة وتسطر للتاريخ وتريد أن تبني مجدها وسؤددها فوق جماجم الغزيين.
استطلاعات
الزلزال الذي هزّ كيان المجتمع الإسرائيلي في السابع من أكتوبر، سيؤدي بالضرورة إلى تغييرات وازنة في كثير من المفاصل، وفي مقدمتها الاصطفافات السياسية والحزبية. هذا لم يحدث ولم يبرز إلى الآن، لكنّه سيحدث ويتضح لاحقا. الاستطلاعات الكثيرة التي جرت مؤخّرا تعكس في أحسن الأحوال صورة الوضع هذه الأيام، ولها تأثيرها الفوري على سلوك الساسة، لكنها لا تتنبّأ بالأحوال المستقبلية، خاصة في فترة عاصفة من التحوّلات، التي لا تصلح فيها الاستدلالات الخطية عموما. ومع ذلك، هناك بعض المؤشرات العامة التي رشحت من هذه الاستطلاعات التي لها تأثير على مآلات الحرب والتوجهات السياسية الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية:
أولا، الجمهور الإسرائيلي بغالبيته الساحقة، يدعم مواصلة الحرب كما هي. ويصل هذا التأييد إلى حوالي 90% من اليهود في إسرائيل، وفقط 7% يدعون إلى التقيّد بمطالب المجتمع الدولي، بعدم المس بالمدنيين. ليس هذا فقط، بل إن المجتمع اليهودي الصهيوني أكثر استعدادا لتحمّل أعداد أكبر من الإصابات، بعد صدمة السابع من أكتوبر، وبعد حملة غسيل دماغ غير مسبوقة، بأنها حرب دفاع مقدّس عن الذات وعن الوجود. وفي ظل هستيريا الحرب الجماهيرية، لا يجرؤ أي زعيم إسرائيلي، يسعى للوصول للسلطة والحصول على أصوات الناخبين، أن يعلن موافقة على وقف إطلاق النار، قبل تحقيق «الأهداف». وقد اهتم نتنياهو بالتسريب بأنّه سيرفض طلبا أمريكيا بوقف الحرب، إذا جاء مثل هذا الطلب. هذا لا يعني بالمرة أنّه سيفعلها إذا كان الضغط كابسا وجديا لا يترك مجالا لترف الرفض. أما إذا جاء الموقف كنصيحة وتوصية، كما هي عادة الأمريكيين، فهو لن يقبل وسيحاول استثمار رفضه سياسيا، بالتباهي بأنه الوحيد الذي يستطيع أن يقول لا لواشنطن، وقد صرح مؤخّرا بأن من لا يستطيع أن يقف في وجه أمريكا «عليه ألا يقترب من ديوان رئيس الوزراء». وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غلانت سرّب من جهته بأنه لن يرضخ للضغط الأمريكي إذا حصل، ويأتي ذلك في إطار الصراع على السلطة بينهما. التفكير في الانتخابات المقبلة، يجعل القيادات السياسية الإسرائيلية أكثر تصلبا، وأقل استعدادا للتجاوب مع الضغوط الدولية.
ثانيا، المشهد السياسي الإسرائيلي برمته من القاعدة إلى القمة، في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر هو أكثر تطرفا ويمينية وعنصرية وجنوحا إلى الحرب ورفضا للسلام العادل. صحيح أن هذا التوجه كان قائما من قبل، لكنّه اليوم زاد كما وكيفا، وأصبح أكثر انفلاتا واندفاعا. وانعكس هذا الميل الجارف في استطلاع القناة 12 الإسرائيلية، الذي ظهر فيه أن 36% من الإسرائيليين أصبحوا أكثر يمينية مقابل 6% فقط صاروا أقرب إلى اليسار مع بقاء 52% في مواقفهم السابقة. ويبدو أن هذا هو الاتجاه العام في المرحلة الأولى القريبة على الأقل، فحتى الذين قالوا بأنهم بقوا في مكانهم، لم ينتبهوا إلى أن المكان الإسرائيلي برمته انتقل وانزاح يمينا.
ثالثا، تشير كل استطلاعات الرأي إلى صعود كبير في شعبية بيني غانتس، وإلى هبوط حاد عند بنيامين نتنياهو. في المعدل يحصل حزب غانتس في الانتخابات على 38 عضو كنيست، مقابل 12 حاليا، ويصل دعمه كمرشح لرئاسة الوزراء إلى حوالي 50%. في المقابل يتراجع حزب الليكود بزعامة نتنياهو من 32 عضو كنيست إلى 18 فقط في الاستطلاعات، وتنخفض شعبية نتنياهو إلى ما يقارب 25% من المستطلعين. والأهم من ذلك تنهار الكتلة البرلمانية الداعمة لنتنياهو من 64 نائبا حاليا إلى 44 في مجمل الاستطلاعات. هذا إذا جرت الانتخابات اليوم، لكنها ستجري في موعد لاحق بعد أشهر طويلة، إن لم يكن سنوات، ومصير نتنياهو وغيره يتعلق بنتائج الحرب، وبتغييرات في الاصطفاف السياسي، مثل دخول رئيس الموساد السابق يوسي كوهين، ورئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، وعودة الجنرال احتياط يئير غولان إلى معمعان الحلبة الحزبية.
رابعا، من ناحية الموقف من الحل السياسي عبّر 35% من الإسرائيليين عن دعمهم لحل الدولتين، منهم 75% من مصوتي اليسار، ونسبة 45% من ناخبي الوسط، ونسبة 21% من اليمينيين. والأهم من الاستطلاعات أنّه كاد الحديث عن «الدولتين» يختفي عن الخطاب السياسي الإسرائيلي ولا يذكره سوى بعض قيادات اليسار الصهيوني، وحتى ليس كلها كما كان في الماضي.
حملة نتنياهو الدموية
حين ووجه نتنياهو بنتائج الاستطلاعات، خلال مؤتمر صحافي، أجاب بلهجة المندهش: «جنودنا يحاربون في غزة ويسقطون في المعارك. وهذا ما يشغلكم؟ سيكون وقت للسياسة، ليس الآن». بعد أيام قليلة من هذا التوبيخ أجرى نتنياهو بالسر استطلاعا كبيرا، وخلص إلى استنتاج بأن الليكود تراجع من جهة، لكن الجمهور الإسرائيلي يتجه يمينا، ودعا من حوله إلى مجاراة الجمهور، واتخاذ مواقف أكثر تشددا بخصوص الحرب وبالنسبة للقضية الفلسطينية عموما، وهذا يفسر، جزئيا على الأقل، هجومه الكاسح على السلطة الفلسطينية وعلى اتفاقيات أوسلو. نتنياهو هو الوحيد الذي يدير حملة انتخابية منهجية في ظل الحرب، وهو يعمل على توظيف العنف الإسرائيلي الفظيع لصالحه، ما أثار حفيظة وزير الأمن غالانت وكذلك بيني غانتس، لشعورهما بأن نتنياهو يريد الانفراد بالإنجاز الدموي في غزة. فإلى جانب انسجام إلى حد كبير بشأن المعارك العسكرية، هناك منافسة قوية في ترويكا صناعة الموت الإسرائيلية حول تسجيل النقاط في التشدد والتطرف. وهكذا نجد وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، مهتما بمواصلة التسريب بأن نتنياهو كان مترددا وخائفا عشية الاجتياح البري لغزة، وأنّه (أي نتنياهو) وغانتس عارضا ومنعا ضربة استباقية ضد قيادة حزب الله، قدمها الجيش ودعمها هو.
ما بعد الحرب
يكثر الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب بالسياق الغزّي والفلسطيني عموما. ولكن هذا يتعلّق إلى حد كبير بالذي سيحدث في إسرائيل عند انتهاء الحرب، إن هي انتهت في المستقبل المنظور. نتيجة العدوان ستقرر مصير القيادات السياسية الإسرائيلية وستحدد طبيعة وشكل الاصطفاف الحزبي. ومن المبكر رثاء نتنياهو، فهو ما زال لاعبا مركزيا في غياب منافس كريزماتي من اليمين. ومن الخطأ أيضا اعتماد استطلاعات الرأي كما هي، لأنها ستتغير آجلا. لكن يجب عدم تجاهل أثرها عاجلا على توجهات وقرارات القيادات الإسرائيلية، التي تدير هذا العدوان الدموي الفظيع على أهل غزة. عند تحليل الخطوات الإسرائيلية المقبلة، يجب الأخذ بعين الاعتبار السياسة الداخلية في إسرائيل، بلا مبالغات وبلا تهوين، فالصراع السياسي له تأثير معين، ولكنه قد يتحول إلى تأثير حاسم في مفاصل معينة، خاصة أن كل أصحاب القرار المشاركين في قيادة الحملة العدوانية يربطون مصيرهم الشخصي بالحرب: نتنياهو يريد أن يبقى في السلطة وأن يملي روايته للتاريخ بأنّه ليس مسؤولا عمّا حدث، وبأنه منقذ شعب إسرائيل لا جالب الدمار عليه. غالانت من جهته يسعى لوراثة نتنياهو ويعمل جاهدا للابتعاد عنه وشق طريقه إلى القمة عبر مراكمة مجد عسكري كسفاح للفلسطينيين وحام للإسرائيليين. أما غانتس فهو يريد المحافظة على مكانته في الاستطلاعات ويكون شريكا في المجازر من جهة ومتنصلا من الفشل من جهة أخرى، وهو يعمل على حفظ مظهر القاتل ذي الملابس النظيفة والنبرة الرصينة. وأخيرا، قائد الجيش الجنرال هرتسي هليفي، فهو يشاء أن يمحو أثر السابع من أكتوبر عبر حسم المعركة، ليس ضد حماس وحدها بل ضد غزة بأكملها.
لا تكفي متابعة ما يحصل في الولايات المتحدة، كما هو تركيز الإعلام العربي، ويجب الانتباه إلى ما يجري في داخل إسرائيل، الذي في محصلته الإجمالية ينتج توجّها أكثر عنصرية وتطرفا ودموية، وبحاجة إلى استراتيجية فلسطينية وعربية جديدة لمواجهته، بشكل مستقل تماما عن نصائح وتوصيات واشنطن، التي صمت آذان القيادات العربية والفلسطينية.
إرسال التعليق