عن تصفية «الأونروا» ومؤامرة التهجير
د. سنية الحسيني
أعلنت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية الموالية على رأسها بريطانيا وكندا وإيطاليا وأستراليا وفنلندا تعليق تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، إثر مزاعم إسرائيلية بمشاركة ١٢ موظفاً من موظفيها في عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر الماضي. وأثنى يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية على قرار هذه الدول بقطع تمويلها عن «الأونروا»، مشدداً على ضرورة إنشاء منظمة بديلة، ومكرراً الاتهامات التي طالما استخدمتها حكومة الاحتلال لشيطنة المنظمة الدولية، باتهامها بالتعاون مع حركة حماس وترسيخ الكراهية عند الأطفال الفلسطينيين. وجاء قرار «الأونروا» السريع بإنهاء عقود ٩ من موظفيها، قبل انتهاء التحقيقات، لتطويق الاتهامات الموجهة اليها، الأمر الذي يشير لمحاولاتها تجاوز تلك الأزمة لشعورها بمدى خطورتها على مستقبل وجودها واستمرارها، في ظل هذه الحملة الخطيرة الموجهة ضدها. ورغم أن العلاقة بين الاحتلال ووكالة الغوث لم تكن ودية طوال السنوات الماضية، وواجهت العديد من التحديات في الماضي، إلا أن حيثيات الصدام وتوقيته هذه المرة يحمل أبعاداً جديدة، ترتبط بمهمة ودور «الأونروا» الضروري في غزة خلال هذه الحرب المدمرة، كما يتعلق أيضاً بأهداف ومخططات الاحتلال من الحرب التي تسببت حتى الآن في تهجير معظم سكان القطاع عن منازلهم، ودعوات الاحتلال لتهجيرهم إلى خارج القطاع أيضاً.
ورغم أن إنشاء وكالة غوث وتشكيل اللاجئين جاء في بداية عهدها بمبادرة غربية، بعد نكبة الفلسطينيين عام ١٩٤٨، إلا أن بقاءها بات بعد ذلك ضرورة لحماية مستقبل هذه القضية. وتشكلت الوكالة وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ٣٠٢ الصادر في الثامن من شهر كانون الأول لعام ١٩٤٩، لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً في مجالات التعليم والصحة. وبدأت «الأونروا» عملها بالفعل في العام التالي لخدمة وإغاثة ٧٥٠ ألف فلسطيني لاجئ في ذلك الوقت. جاء القرار الغربي بإنشاء «الأونروا» في ظل منظومة من القرارات الأممية التي تمخضت عن قرار التقسيم ١٨١ لعام ١٩٤٧، والاعتراف بإسرائيل في العام ١٩٤٨، وإنشاء الوكالة في العام التالي، وذلك لصبغ قضية اللاجئين الفلسطينيين أممياً بصبغة إنسانية، بعيداً عن بعدها السياسي الحقيقي، وهو الأمر الذي تحقق بالفعل طوال عقد الخمسينيات من القرن الماضي. وتؤكد جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة باللاجئين التي صدرت خلال ذلك العقد على ذلك البعد الإنساني لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
بعد إنشاء منظمة التحرير وفرض القضية الفلسطينية في المحافل الدولية كقضية احتلال، ومنظمة التحرير كحركة تحرر وطني، بدأ الدور الذي تلعبه وكالة الغوث الأممية يتخذ بعداً مختلفاً، تمثل في صمود اللاجئين خارج وطنهم، وحماية حقوقهم. وتقدم «الأونروا» اليوم خدماتها لستة ملايين لاجئ فلسطيني حسب بياناتها، زاد عددهم على مدار أربعة أجيال متتالية، ينتشرون في فلسطين والأردن ولبنان وسورية، يتوزعون في ٥٨ مخيماً، منها ١٩ في الضفة و٨ في غزة و١٠ في الأردن و١٢ في لبنان و٩ في سورية. ويتمثل دور وكالة الغوث في الحد من معاناة اللاجئين للفلسطينيين داخل تلك المخيمات، وذلك للمحافظة على وجودهم داخلها، لإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة، في بعدها السياسي طالما لم يتم حلها بعد، وفي بعدها القانوني أيضاً الذي يتعلق بحمايتهم كأشخاص محميين بموجب القانون، سواء كان ذلك في الحق بعودتهم إلى وطنهم وبالتعويض عن الأضرار والخسائر التي لحقت بهم.
إن ذلك يفسر السبب في موقف إسرائيل المعادي لهذه الوكالة الدولية، التي تتهمها بتخليد قضية اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما يتعارض مع أهداف الاحتلال. ورغم أن وجود «الأونروا» يخفف من الأعباء التي تقع على الاحتلال في الأراضي المحتلة، وأحياناً ساهم وجودها في تقليص الضغوط عليها عند احتدام التوترات في الأراضي المحتلة، إلا أن سلطات الاحتلال سعت خلال السنوات الأخيرة لتصفية دور «الأونروا» والتخلص منها بشكل صريح. في العام ٢٠١٤ دعت إسرائيل عشرات الدبلوماسيين الاجانب للكنيست، بهدف إقناعهم بخطورة الدور الذي تقوم به وكالة الغوث، في ظل اتهامها بالتحريض ضدها، بالتشجيع على العنف في المدارس التابعة لها، وبوصفها بـ «حاضنة الإرهاب». ودعا نتنياهو في العام ٢٠١٨ إلى وضع اللاجئين الفلسطينيين تحت سلطة مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة وإنهاء وجود «الأونروا». وخلال عهد الرئيس دونالد ترامب، تبنت الإدارة الأميركية توجهات إسرائيل بتصفية دور «الأونروا»، فشككت بأعداد اللاجئين الفلسطينيين، وأنكرت هذه الصفة عن أبنائهم وأحفادهم. وعلقت الولايات المتحدة دعمها للوكالة، كما أوقف عدد من الدول من بينها هولندا وسويسرا تمويلها للوكالة في العام ٢٠١٩، تحت وطأة حملة التشويه الإسرائيلية – الأميركية ضدها، الأمر الذي استدعى إعلان المفوض العام لـ «الأونروا» في العام التالي عن عدم قدرة الوكالة تسديد رواتب موظفيها. وفي العام ٢٠٢٢ ظهرت تسريبات حول إمكانية دمج عمل الوكالة، لتقويض استقلاليتها، وكمقدمة لتصفيتها، وذلك إما من خلال تبعيتها للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أو بإلحاقها بالوزارات المعنية في الدول المضيفة، أو عبر إنشاء وكالة جديدة مستقلة تخضع لوكالات دولية مثل البنك الدولي.
خلال الهجوم الإسرائيلي الدموي المدمر الحالي على غزة، والذي يقوم في الأساس على استهداف المدنيين، وتهجيرهم، يبقى دور «الأونروا» معطلاً لتحقيق تلك الأهداف. لم تخف إسرائيل موقفها من «الأونروا»، فصرح يسرائيل كاتس، وزير الخارجية الإسرائيلي، أن حكومة الاحتلال ستعمل على منع الوكالة من العمل بعد الحرب، خصوصاً في ظل وجود قرار الجمعية العامة رقم ٧٤ / ٨٣ لعام ٢٠١٩، بتمديد تفويض «الاونروا» حتى العام ٢٠٢٣. وجاء ادعاء الاحتلال الأخير بمشاركة ١٢ موظفاً من موظفيها في عملية طوفان الأقصى، من بين أكثر من ٣٠ ألف موظف آخرين يعملون لخدمة الفلسطينيين، والذي استُشهد من بينهم ١٤٢ موظفاً في هذه الحرب الجارية حالياً في غزة، في خضم كل تلك التطورات، ليعكس النوايا المبيّتة للاحتلال. وجاء الادعاء الأخير بعد ساعات فقط من رفض محكمة العدل الدولية مطالب إسرائيل بإسقاط دعوى جنوب إفريقيا، ومطالبتها باتخاذ تدابير فورية لوقف استهداف المدنيين، في إحراج كبير لدولة الاحتلال، واتهام بإيذائها للمدنيين. وكانت الوكالة قد قدمت تقريراً حول هجوم إسرائيل الحالي على غزة اعتبر أن «القصف المستمر تسبب في نزوح عدد كبير من السكان، الذين أُجبروا على مغادرة بيوتهم، إلى أماكن ليست آمنة، الأمر الذي تسبّب بتضرر أكثر من مليوني فلسطيني، ناهيك عن الأضرار النفسية والبدنيّة، كما أن أطفال غزة يشعرون بالرعب». واستخدمت المحكمة ذلك التقرير للوكالة، في القضية التي تنظرها ضد إسرائيل، بشأن ارتكابها جرائم إبادة جماعية في غزة.
لا تعد سياسة التشكيك الإسرائيلية بمصداقية الوكالة بالجديدة، فقد شككت فيها أكثر من مرة من قبل، كما أنها اتهمت وكالة الصحة العالمية بدعم «الارهاب»، في إشارة لحركة حماس، ومحكمة العدل الدولية بمعاداة السامية، كما شككت بمصداقية المحكمة الجنائية الدولية، بعد قرارها بوجود تخصص للمحكمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إلا أن خسارة «الأونروا» للتمويل قد يؤثر على جوهر عملها، خصوصاً في ظل هذه الظروف الخطيرة في غزة، فـ ٩٠ في المائة من ميزانيتها يأتي بشكل أساس من التبرعات الطوعية للدول، وأهم تلك الدول المتبرعة الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، والذين أخذوا موقفاً فورياً بعد ادعاءات الاحتلال الأخيرة بوقف التمويل عن الوكالة. يحتاج الغزيون اليوم لوجود «الأونروا» في غزة، في ظل الظروف المعقدة التي يعيشونها، رغم صعوبة عملها وممارسة مهامها، وهي الجهة الأهم التي يمكن أن تعمل كوسيط بين خارج غزة وداخلها، لإدخال المساعدات وتنظيم توصيلها والحد من الاضطرابات المصاحبة. ويبدو أن نية إسرائيل استغلال الظروف القائمة للتخلص من دور الوكالة في غزة، يرتبط بنيتها في المضي قدماً بتحقيق مخططاتها بالتهجير، وإبعاد الوكالة الدولية من الطريق، في ظل اشتداد وطيس الحرب.
إرسال التعليق