مجزرة في الشفاء هي النمط

مجزرة في الشفاء هي النمط

د. جمال زحالقة
توالت الإدانات الدولية لجريمة استهداف عاملي الإغاثة الغذائية لمنظمة «وورلد سينتر كيتشين»، فجر ليلة الثلاثاء الماضي. واضطرت إسرائيل إلى الاعتذار عن الحادث، وحلل محللوها بأنه يجب احتواء تداعيات مقتل سبعة من عاملي إغاثة، منهم خمسة من حاملي الجنسيات الأجنبية، حتى لا تؤثّر على «شرعية» مواصلة الحرب. ويرشح من لغو الادعاءات الإسرائيلية أن ما حدث كان «خطأً غير مقصود»، بسبب سوء تقدير واعتقاد أنّ فلسطينيا مسلحا كان في المنطقة. الدولة الصهيونية قتلت في حرب الإبادة الجماعية في غزة ما يربو على 33 ألف إنسان، ولم تعترف بالمسؤولية عن «التسبب بقتل غير مبرر»، سوى في هذه الحادثة وعن سبعة أشخاص فقط.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي مركبات وعاملي الإغاثة الإنسانية، فقد حدث ذلك عشرات المرات، وذهب ضحية هذا الاستهداف المقصود مئات الضحايا، وعليه فإن قتل السبعة يندرج ضمن سياسة قائمة ومعتمدة وليس شذوذا عن القاعدة. وتركّز إسرائيل حملتها ضد «لوازم بقاء البشر على قيد الحياة»، بشكل مكثّف في منطقة شمال غزّة تحديدا، ويبدو أن القيادة الإسرائيلية تريد أن تبقي الباب مفتوحا أمام احتلال إسرائيلي مباشر ومستمر لمدينة غزة ومحيطها، إضافة إلى الشريط الحدودي، الذي يشكل وفق المصادر الإسرائيلية 16% من مساحة القطاع، الذي أعلنت إسرائيل عن اقتطاعه ليكون تحت سيطرتها المباشرة.
معركة الشفاء
في حين ضج العالم، وبحق، بسبب مقتل موظفي الإغاثة السبعة، صمتت حكومات الغرب كافة، إزاء الجريمة الفظيعة في مستشفى الشفاء في غزة، التي استغرقت أسبوعين من القتل والتدمير والتنكيل. وما كانت هذه الحكومات لتتحرك، وما كانت إسرائيل لتعتذر لو كان الضحايا فلسطينيون فقط. لقد حظي مقتل السبعة بإدانة رسمية غربية واعتذار رسمي إسرائيلي يفوق بأضعاف مقتل 14 ألف طفل فلسطيني. مشاهد انتشال الجثث المتحللة من محيط مستشفى الشفاء، تهز الإبدان والنفوس، ويبدو أن ما من فظاعة في هذه الحرب، إلاّ وإسرائيل حاضرة لارتكاب ما هو أفظع منها. والدولة الصهيونية ليست مدججة بأسلحة الفتك والدمار فحسب، بل بالحجج والتبريرات لكل جريمة ترتكبها. حسب الرواية الإسرائيلية جاء الهجوم على مستشفى الشفاء، لأنه تحول إلى «مركز لحركة حماس». الدولة الصهيونية لم تقدم أي دليل على ذلك، وكلامها هو مرجعية ذاته، ودليل صدق الادعاء بنظرها هو أن مسؤولا إسرائيليا قاله. ولكن، حتى لو كانت في المستشفى عناصر من حماس، هل هذا يعني أن هدم المستشفى مشروع؟ هل يبرر ذلك قتل الأطباء والممرضين والمرضى؟ يقع ثاني أكبر معسكر للجيش الإسرائيلي في محيط مستشفى «تل هشومير»، أكبر المستشفيات الإسرائيلية، فهل يقبل «العالم الحر» استهداف المستشفى لأن فيه عناصر من الجيش الإسرائيلي؟ لقد صمت الأطباء في إسرائيل على جريمة استهداف المستشفى، ومن تحدث منهم دعم الهجوم الإجرامي، فقد وقع 100 طبيب إسرائيل على عريضة تدعم اقتحام المستشفيات الفلسطينية، وبالأخص مستشفى الشفاء، بادعاء وجود «عناصر إرهابية»، كما قالوا.
تساءل الكثيرون عن سر الاستحواذ الإسرائيلي بالمستشفيات تحديدا، والجواب أن جيش الاحتلال يستهدف كل شيء: البشر والبيوت والمدارس والمستشفيات ووسائل النقل والمزارع والمصانع. والهدف هو الانتقام وترميم الردع والسيطرة على أرض فلسطين من خلال الإبادة والتهجير وحرمان الناس من لوازم الحياة الأساسية: الأمن والغذاء والماء والمأوى والعلاج. وبعد أن قررت إسرائيل جعل منطقة شمال غزة غير صالحة لحياة البشر، فإن تدمير المستشفيات وسائر مرافق العلاج، هو جزء من هذه العملية. والدولة الصهيونية واعية تماما بأن مستشفى الشفاء هو القلب النابض للجهاز الصحي في غزة، وهي قامت بإجراء عملية استئصال القلب، وقد سمتها رسميا «عملية جراحة موضعية». ومن يسمع هذا الاسم يظنها عملية لإنقاذ حياة إنسان، ولكن واقع المشهد هو مذبحة إسرائيلية أخرى. إسرائيل تستهدف المستشفى بشكل خاص لوظيفته، وبشكل عام مثل غيره من مرافق الحياة. لقد عاد جيش الاحتلال ثانية إلى مستشفى الشفاء. في المرة الأولى في 15 نوفمبر/تشرين الثاني كان الهدف الأساسي هو إخلاء المرضى والعاملين والنازحين، في إطار عملية تهجير سكان مدينة غزة إلى الجنوب، وخلّف حينها عشرات الشهداء ودمارا جزئيا. وبعد أن عاد المستشفى للعمل، عاد الجيش الإسرائيلي ثانية وهذه المرّة لارتكاب مجزرة مقصود ومدبّرة.
ما الدوافع وراء هذه العملية الوحشية؟
لعل أكثر ما يقلق إسرائيل هو انهيار الردع، وهي تريد ترميمه. هناك ردع بالمنع وردع بالانتقام، وجيش الاحتلال يزيد عليهما بالردع بارتكاب الفظائع، والعلة أن المقاومة الفلسطينية عصية على الردع وهناك «حاجة» لفظائع كبرى علّها تزرع الردع في النفوس، خاصة في ظل الفشل في تدمير حماس. لقد اقتحمت القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء ليس بحثا عن عناصر عسكرية فلسطينية في المجمع المدني، بل استهدافا لموقع مدني للردع العسكري. ويندرج استهداف المستشفى ضمن عملية الإبادة الجماعية والدمار الشامل، التي لا تستثني شيئا ولا حتى مرافق العلاج الصحي، بل إن المستشفيات تحديدا «يسهل» المهمة، لأن محوها يجعل الناس يموتون بسبب تفاقم الأمراض وانعدام العلاج. وتحاول إسرائيل أيضا إخلاء شمال القطاع قدر الإمكان، وتستعمل في سبيل ذلك جعلها منطقة خالية من إمكانيات العلاج الصحي. وهي تعمل على منع عودة الناس إليها، خاصة عند القيام بإخلاء منطقة رفح. هناك أيضا مؤشرات بأن إسرائيل تخطط لإبقاء مدينة غزة ومحيطها تحت الاحتلال الإسرائيلي «المؤقت» لفترة طويلة، ويجري تداول عدد من السيناريوهات المتعلقة بهذا التوجّه.
بين رفح والشفاء
يحذر الكثير من المسؤولين العرب والدوليين من اجتياح مدينة رفح، وتتخذ هذه التحذيرات صيغا متعددة. فيركز المسؤولون العرب على مسألة التهجير إلى سيناء، أو غيرها ويعتبرون ذلك خطا أحمر. أما الإدارة الأمريكية فتشترط وجود «خطة عملية معقولة لإخلاء المدنيين، وضمان عدم حدوث كارثة إنسانية كبرى»، وترى في ذلك أيضا خطا أحمر. وتردد العواصم الأوروبية هذا الموقف، ويبدو أن الخط الأحمر الوحيد على الدولة الصهيونية يتعلق بعملية رفح، والرسالة التي تصل إسرائيل هي أن ما عداها مباح. لقد فرضت الولايات المتحدة، ولحق بها بعض العرب، معادلة فظيعة وهي أنه يمكن تحمّل المجازر الفعلية في الحرب، ما دامت إسرائيل لم تتخط «الخط الأحمر» بشأن عملية محتملة في رفح. وهكذا تناور إسرائيل أمام العالم بأن امتناعها إلى الآن عن اجتياح رفح يمنحها شرعية زائدة في ارتكاب جرائم في مناطق أخرى من القطاع.
وصفت إسرائيل جريمتها في مستشفى الشفاء بأنها عملية خاصة، لكنها في الواقع ليست منفردة، بل نمط متزايد وتعتزم إسرائيل جعله نمطا سائدا، وقد جرى الاتفاق على ذلك مع الإدارة الأمريكية. خلاصة هذا الاتفاق أين يتمركز جيش الاحتلال الإسرائيلي في مواقع محددة ويقوم بعمليات خاصة عند الحاجة. وعليه فإن إسرائيل كانت مقتنعة تماما بأن اجتياح الشفاء يحظى بمباركة أمريكية كاملة بلا تحفّظ، وبأن لديها ضوءا أخضر للعمل بهذا المنوال. صحيح أن الحرب كلها مدعومة من الولايات المتحدة، ولكن عملية الشفاء تفي بالمعايير الأمريكية أكثر. إسرائيل ستواصل عملياتها الإجرامية الخاصة إن لم تجد ما يردعها ويمنعها. وما الذي يمكن أن يحرك ضمير قيادات العالم والعرب بعد كل هذه المجازر؟ يبدو أن توالي الفظائع لم يعد يحرّك السياسة الدولية لوقف حرب الإبادة. المطلوب فعل سياسي، يبدأ فلسطينيا بتشكيل حكومة فلسطينية متفق عليها من الجميع ولها مرجعية توافقية مشتركة، حتى لو تطلب ذلك استقالة الحكومة القائمة منذ أيام. المفتاح هو أن يكون للشعب الفلسطيني عنوان سياسي واحد وموحّد، لسد الطريق على مؤامرات التصفية ولتحريك الصف العربي والدولي لمحاصرة العدوان الإسرائيلي ووقف الحرب.

إرسال التعليق