سبع ملاحظات حول الهجوم الصاروخي الإيراني

سبع ملاحظات حول الهجوم الصاروخي الإيراني

د. جمال زحالقة
يشكل الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل حدثا جيواستراتيجيا فارقا في الشرق الأوسط، فلأول مرة، وبعد تهديدات استمرت عقودا من الزمن، توجه الجمهورية الإسلامية نيرانها صوب الدولة الصهيونية. وجاءت الخطوة الإيرانية ردا على استهداف قنصليتها في دمشق، ما تسبب في فقدان الصبر الاستراتيجي، الذي التزمت به القيادة الإيرانية، رغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والمتواصلة.
وعلى الرغم من التصريحات الإيرانية بأن المسألة انتهت بالنسبة لها، فإن الأمر ليس كذلك في إسرائيل، التي لا تتحمّل أن تجرؤ أي دولة على مهاجمتها. في كل الأحوال، هذا ليس حدثا عابرا، بل تحوّل في الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل وربما فاتحة مرحلة مشحونة جديدة، وفي ما يلي بعض الملاحظات بهذا الشأن:
أولا، لأول مرة تشارك دول عربية في الدفاع عن إسرائيل في معركة عسكرية. وهذا تصرّف كارثي وهجران لأبسط معاني الانتماء العروبي، وهو انهيار أخلاقي رهيب ومعيب في ظل المجازر الفظيعة التي ترتكبها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة هاشم. ومن أكثر ما فاخر به المسؤولون والمحللون الإسرائيليون هو مشاركة دول عربية في نقل المعلومات والرصد والمساهمة الفعلية في حماية أمن إسرائيل من الصواريخ الإيرانية. وقد تبين بشكل واضح أن دول التطبيع، التي تطمع بحماية من إسرائيل، هي بالنسبة للدولة الصهيونية، حزام دفاعي وحارس أمامي لأمنها. ما من شك بأن هذا السلوك يعرّض حياة مواطني هذه الدول للخطر، وأقل ما يقال عنه أنّه يستدعي طرح أسئلة أخلاقية ووطنية وقومية وإنسانية من الوزن الثقيل. وكيف انتقلنا بهذه السرعة من التطبيع مع إسرائيل مع ترويج أوهام السلام، إلى التحالف الحربي السافر معها، وهي ترتكب المجازر اليومية بحق شعب فلسطين؟ صحيح أن المواجهة الحربية تكشف حقيقة موقف الدول وانحيازها وموقعها في الصدام، وصحيح أن دولا عربية أعلنت قولا وفعلا أنها مع إسرائيل، ولكن لا يصح التسليم بهذا الأمر، وهناك واجب على عدة قوى في المنطقة لوقف هذا التدهور الخطير، وفي مقدمتها دول عربية أخرى ستفقد مكانتها الإقليمية لصالح إسرائيل، وكذلك حلفاء إيران العرب، المطالبين بالسعي لمصالحة عربية إيرانية شاملة، تنسف تبريرات الارتماء في الحضن الإسرائيلي المليء بالأشواك.
ثانيا، تؤكّد المصادر الإسرائيلية أن جهاز الموساد وشعبة المخابرات العسكرية، لم يتوقّعا الرد الإيراني، ما اعتبر فشلا مخابراتيا مدويا في قراءة التفكير الاستراتيجي الإيراني وتوقّع الرد. فعند التخطيط لأي عملية عسكرية إسرائيلية من النوع الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق، تطرح في العادة ثلاثة أسئلة: هل الهدف وازن؟ هل العملية قابلة للتنفيذ؟ وما هي النتائج والتداعيات الممكنة؟ ويبدو من التسريبات أن الإجابة عن السؤال الأخير كانت خاطئة، وأن أحدا في غرفة العمليات الإسرائيلية لم يتوقع أن ترد إيران بهجوم صاروخي. ويزيد هذا الفشل من حدة الانتقادات الموجهة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي أخفقت في السابع من أكتوبر ومرة أخرى في الرابع عشر من أبريل، ما يدفع باتجاه تخفيف وزن ركيزة «الإنذار المبكر» في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، والاتكاء أكثر على ركائز أخرى مثل المنع والدفاع والحسم.
ثالثا، ما أقلق إسرائيل أكثر هو تصدّع الردع، الذي ظهر جليا في السابع من أكتوبر وفي دخول حزب الله إلى المعركة، وأخيرا في الهجوم الصاروخي الإيراني. وهي تسعى في الأشهر الأخيرة إلى تغيير قواعد الصراع وتأسيسها على ردع من طرف واحد: إسرائيل تفعل ما تشاء، متى تشاء وحيث تشاء، وتفرض الرعب على كل من يحاول الدفاع عن نفسه في وجه عدوانها، ويتجسد هذا الترويع في مجازر حرب الإبادة والدمار الشامل في غزة. وبغض النظر عن نتائج الهجمة الإيرانية، فإن إسرائيل تتعامل معها بحكم النوايا وليس فقط بحكم النتيجة، وما من شك بأنها سترد، خاصة بعد ما أطلقته القيادة الإسرائيلية من تصريحات نارية ووعيد بالعقاب. وفي هذا السياق قال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت: «لن يتمكن الإيرانيون من فرض معادلة ردع مختلفة.. طائراتنا تعمل في كل مكان، وسماء الشرق الأوسط مفتوحة أمامها، وسنعرف كيف نضرب من يقاتلنا أينما كان».
رابعا، يبدو أننا فعلا على عتبة معادلة جديدة، وغالانت كعادته يجافي الحقيقة والمنطق، فإسرائيل توقفت عن القصف بعد استهداف القنصلية الإيرانية، ويبدو ذلك مرتبطا بالخشية من الرد الإيراني. وللمقارنة دأب الجيش الإسرائيلي بالمعدّل على شن ثلاث غارات أسبوعية على مواقع «إيرانية» في سوريا، مقابل صفر غارات على مدى أسابيع بعد حادثة القنصلية. ولا يمكن تصديق «التحليلات» الإسرائيلية بأن سبب التغيير هو تجميد إيران لفعاليات «التموقع» في سوريا، والواضح أن إسرائيل تزن الأمور من جديد. لقد كان الهجوم الإيراني تحذيريا في الأسلوب والمبغى للضغط على الدولة الصهيونية لإعادة النظر في تكتيكات «المعركة بين الحروب»، واستهدف تحديدا معسكرات سلاح الطيران الإسرائيلي، التي خرجت منها الطائرات التي قصفت القنصلية في دمشق. ويبدو جليا من طبيعة الرد أن إيران غير معنية بالحرب الشاملة، لكنّها قررت في ما يبدو بناء معادلة ردع جديدة إزاء الدولة الصهيونية، والعمل على لجم الانفلات الإسرائيلي في استهداف إيرانيين ومواقع إيرانية. ومهما كابرت القيادات السياسية والأمنية في تل أبيب، فهي مضطرة إلى إعادة حساباتها، وقد يظهر لاحقا أن ما تدعيه من «انتصار» في معركة الصواريخ، سرعان ما سيتحوّل من إنجاز تكتيكي إلى خسارة استراتيجية.
خامسا، لعبت قيادة المنطقة الأمريكية الوسطى للجيش الأمريكي، المسؤولة عن الشرق الأوسط، الدور المركزي في الدفاع عن إسرائيل في وجه الصواريخ الإيرانية، وشارك ضباط أمريكيون، وفي مقدمتهم الجنرال مايكل كوريلا قائد المنطقة الوسطى «سينتكوم»، في إعداد الخطط العسكرية وفي بناء «تحالف الدفاع عن إسرائيل»، الذي شمل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وعدد من الدول العربية. وشكّل هذا التحالف دورا مركزيا حاسما في حماية الدولة الصهيونية. وكتب إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مقالا استعرض فيه هذا الدور موضحا، أنه لولاه لسقطت نسبة عالية من الصواريخ في إسرائيل وأدّت إلى «تدمير عدد من معسكرات سلاح الجو الإسرائيلي، وإلى سقوط عشرات القتلى وإلى شعور بأننا مكشوفون وبلا حماية».
سادسا، كلفت معركة الصواريخ إسرائيل حوالي 1.5 مليار دولار، ويبدو أن الولايات المتحدة ستدفعها بالكامل عملا بالتزام بايدن الشخصي في ما سمي «إعلان القدس»، الذي ذُكر فيه أن الإدارة الأمريكية غطّت تكلفة ذخائر القبة الحديدية في معركة «سيف القدس» عام 2021، وبأنّها ملتزمة بمواصلة الدعم على المنوال نفسه. ويبدو حاليا أن الحساب الاقتصادي الإسرائيلي لا ينصب على المليار ونصف دولار، بل أكثر نحو تسويق أسلحة الدفاع الجوي الإسرائيلية، التي تنتجها ثلاث شركات هي رفائيل وإلبيت والصناعة الجوية. ووصفت صحيفة «هآرتس» الأداء الإسرائيلي في معركة الصواريخ بأنه «أفضل ترويج لبيع الأسلحة الإسرائيلية». كما أن التكلفة الباهظة خلال ساعات، تدفع بقوة نحو التسريع في تطوير مشروع «الدرع الضوئي»، المبني على سلاح أشعة الليزر القوية. الذي تكلفة تفعيله زهيدة وتصل إلى ثلاثة دولارات لضربة ليزر مضادة للصواريخ مقابل 30 ألف دولار لقذيفة القبة الحديدية.
سابعا، تشير التسريبات والتصريحات بأن إسرائيل سترد «في الوقت والمكان والقوة المناسبة»، لكنها في الحقيقة تتردد في الرد لأسباب كثيرة منها انها لا تريد أن تفتح جبهة جديدة في عز الحرب، ولأن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تدعوها للانضباط والاكتفاء بما حققته دفاعاتها الجوية، وهي تريد كذلك الإبقاء على التحالف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي العربي. المصيبة أن الولايات المتحدة ودولا أوروبية تقترح على إسرائيل عدم الرد مقابل فرض المزيد من العقوبات على إيران، ومقابل الإمعان في غض الطرف عن جرائم حرب الإبادة الجماعية على أهل غزة.
الرابع عشر من أبريل لم يكن حدثا عابرا، بل يبرز كتحوّل جيواستراتيجي، سوف تنكشف معالمه لاحقا، وإن كانت بعضها اتضحت رغم صعوبة الرؤيا في معمعان غبار المعارك الكثيف.

Previous post

سجناء مضربون عن الطعام احتجاجا على عمليات إعدام جماعية في إيران

Next post

عقب الهجوم الإسرائيلي على أصفهان مصر تشكل خلية أزمة لمتابعة تطورات الموقف ووكيل المخابرات السابق للزمان الهجوم الإسرائيلي محاولة إسرائيلية للتغطية على هجوم رفح المرتقب ومحاولة إطالة أمد حكم نتنياهو

إرسال التعليق