الحرب لا تنتهي…
د. جمال زحالقة
فيما تواصل الدولة الصهيونية حرب الدمار الشامل والإبادة الجماعية في قطاع غزة، وفيما تتوالى المجازر الواحدة تلو الأخرى، لا تبدو في الأفق نهاية للحرب، على الرغم من كثرة الحديث عن «صفقة شاملة»، وعن «هدوء مستدام»، وعن «انسحاب كامل». الحرب مستمرة، ليس لأن محاولات وقفها فشلت، بل لأنّه في الحقيقة لم تجر محاولات فعلية لإنهائها. العامل الجدّي الوحيد المحفّز، حاليا على الأقل، لوقف إطلاق النار هو قضية المحتجزين الإسرائيليين، وتعرُّض القيادة الإسرائيلية لضغط من الشارع ومن النخب للتوصل إلى صفقة تبادل، حتى لو بثمن وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة، ولكن نتنياهو ومن حوله وضعوا خطّا أحمر قانيا في هذين الأمرين تحديدا: لا وقف دائم لإطلاق النار، ولا انسحاب كامل من غزّة. وفي نظرهم يبقى هذا الخط محمّرا إلى أن تتحقق غايات الحرب المعلنة. ولو دققنا في التصريحات والتحليلات الإسرائيلية سنجد، أن الدولة الصهيونية سوف تستأنف حربها، بعد إتمام شروط الصفقة، إذا حصلت صفقة.
الحرب لا تنتهي في ظل هذا الزمن العربي الرديء.. هي كشفت وفضحت عمق التردّي الذي وصل إليه النظام العربي، فهو إمّا عاجز فعلا وغير قادر على الفعل وهذه مصيبة، وإمّا يتظاهر بالعجز، وهو فعلا راض عمّا يجري كما تقول إسرائيل، وهذه أمّ المصائب. ألا تستطيع الدول العربية المطبّعة أن تقطع علاقتها بإسرائيل؟ هي تستطيع لكنّها، في واقع الأمر، تقبل بأن تواصل علاقتها بالدولة التي قتلت أكثر من 36 ألف عربي (للتذكير الفلسطينيون هم من العرب)، وأصابت ما يزيد عن 90 ألفا بجراح وتهجّر مليون ونصف المليون إنسان، بعد أن دمّرت بيوتهم. هذا كلّه لم يكن كافيا حتى للتهديد بوقف التطبيع القائم، وبالامتناع عن الدخول في مسار التطبيع المقبل.
إسرائيل، في السطر الأخير، تشعر بالأمان من النظام العربي الرسمي، وتدعي أن «الدول العربية راضية عمّا نقوم به في غزّة». وتزن إسرائيل حساباتها إزاء العالم العربي بمكيالين: مكيال القدرة ومكيال النية. الأول يخيف إسرائيل كثيرا، لأنّها تعلم أن للعالم العربي وزنا ضخما، له تأثير كبير إذا جرى استعماله. لكنّ مخاوفها تتبدد تبعا لما يصلها، ولما تعرفه عن الثاني، عن انعدام النية لتحدّي إسرائيل، والعمل على وقف الحرب، حتى لو كان المعلن خلاف ذلك. الجهد العربي الوحيد هو ما تقوم به مصر وقطر، وهو مساهمة مهمّة، لكن المطلوب من العالم العربي أكثر بكثير من ذلك.
الحرب لا تنتهي، لأن الساحة الأوروبية تبث رسائل متناقضة: قوى مجتمعية ضخمة تدعم فلسطين، وتدعو لوقف المجازر، وحكومات أوروبية في أغلبها لا تحمل موقفا سوى صدى الموقف الأمريكي، وحكومات أخرى، تعارض العدوان الإسرائيلي، لكنها غير قادرة على تحريك فعل دولي كابس على إسرائيل. هناك اعتقاد سائد بأن إسرائيل لا تكيل صاعا سوى للموقف الأمريكي، ولا يهمها ضغط أوروبا، ولكن، هل جرى اختبار الضغط الأوروبي فعلا؟ الحكومات الأوروبية في غالبيتها منحت إسرائيل «صك الغفران» اعتمادا على ما يسمى «حق الدفاع عن النفس». وهي ترفض فرض أي عقوبات على جرائم ومجرمي الحرب. ولا تبادر لوقف إطلاق النار، ولا تمارس أي ضغط فعلي على إسرائيل. ولو جرى تفعيل كبسة أوروبية عربية مشتركة لخضع نتنياهو وانتهت الحرب، فهو معروف تاريخيا بانصياعه للضغوط، إذا أحس بوطأتها، عليه وعلى حكومته ودولته. الحرب لا تنتهي، لأن الولايات المتحدة لا تريدها أن تنتهي. وكلمة تريد هنا لا تأتي بدلالة الرغبة فقط، بل بمعنى الإرادة أيضا. الإدارة الأمريكية شريكة كاملة في الحرب، ولو توقفت عن المشاركة لانتهت الحرب، لأن الدولة الصهيونية لا تستطيع مواصلتها من دون الظهير الأمريكي. ويمكن القول إنها حرب بالمناصفة، نصف إسرائيلي ونصف أمريكي. يكفي أن نذكّر ببعض ما تكفّلت به إدارة بايدن: أولا، المساهمة في تماسك ورفع معنويات الشارع والجيش والقيادة في إسرائيل، بعد صدمة السابع من أكتوبر، من خلال الزيارات المتتالية والوعود السخية والمساندة شبه المطلقة، ثانيا، الالتزام بالدفاع عن إسرائيل في الدائرة الثانية للمواجهات وجرت ترجمة ذلك في التصدي الأمريكي المباشر للهجمات اليمنية والإيرانية، ثالثا، إمداد متواصل بالأسلحة والذخائر، رابعا، بسط غطاء دبلوماسي وسياسي كامل، خامسا، توفير دعم مالي ضخم يقدر بحوالي 20 مليار دولار، سادسا، توجيه تهديدات مباشرة لكل من الممكن أن يشارك في الحرب. قد تكون الإدارة الأمريكية على خلاف مع نتنياهو وبعض وزرائه، لكنّ البنتاغون على انسجام كامل مع الجيش الإسرائيلي ومع قيادته. وما يظهر حتى الآن أن الولايات المتحدة تتحدث مع إسرائيل بلغة النصح والإرشاد، وليس بلهجة الأمر والجزم والحزم، ناهيك عن الضغط والكبس. والطريقة التي تتحدث بها إدارة بايدن عن الحرب، تفهمها إسرائيل على أنّها ليست دعوة لوقف القتال، بل لأخذ الحيطة والحذر في بعض جوانبه. لقد التزمت الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في «الدفاع عن النفس» وفي «القضاء على حماس»، وهي تواصل دعمها بهذا الاتجاه. المهم أن الولايات المتحدة مطمئنة إلى أن مصالحها لا تتضرر بسبب هذا الدعم الإجرامي لحرب الإبادة الجماعية، والدعم الأمريكي شبه المطلق هو وصفة لحرب لا تنتهي.
الحرب لا تنتهي لأن التضامن العالمي الضخم والمبارك والمهم، يشيّد ذخرا استراتيجيا وازنا في نصر قضية العدالة في فلسطين، لكن تأثيره المباشر على سياسات الدول المعنية ما زال محدودا. على المدى المتوسط والبعيد، يمكن ويجب حقا التعويل على هذا الحراك العالمي المشرّف، لكن ترجمته إلى مفعول سياسي فوري لوقف الحرب لم تنضج بعد. مهم أن نقدر ونثمن المظاهرات الصاخبة في الجامعات الأمريكية والأوروبية، ومهم ان نتفاعل معها ولا نفعل ما يشوش عليها، لكن علينا أن ندرك أن تأثيرها المباشر باتجاه وقف الحرب الفوري ما زال محدودا. الحرب لا تنتهي، لأن قرارات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية ما زالت مبتورة ومنقوصة وبلا أسنان، مع أنها عموما بالاتجاه الصحيح. المشكلة أنه لم يؤخذ بما صدر منها إلى الآن لحشد الضغوط على الدولة الصهيونية لوقف حربها الإجرامية على غزة وأهالي غزة. الحرب لا تنتهي، لأن الإمبراطورية الأمريكية هي سند إسرائيل وحربها. والقوتان العظميان الأخريان، الصين وروسيا، تعارضان الحرب من بعيد. الصين هي حقا عملاق اقتصادي، لكنها ما زالت قزما سياسيا مقارنة بالعملاق الأمريكي. أما روسيا فهي تربح سياسيا وعسكريا من الحرب في غزة، من دون أن تحرّك ساكنا. باختصار: القوى العظمى الثلاث في العالم، لا تفعل شيئا لوقف الحرب.
الحرب لا تنتهي لأن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي مرّ بتغييرات كبرى، منها أن استراتيجية الحرب السريعة الخاطفة، التي طالما اعتمدتها الدولة الصهيونية، صغيرة المساحة وقليلة السكان، مقابل الجيوش العربية، التي تنطلق من وزن قاري ضخم، لم تعد قائمة في مواجهة منظمات مسلّحة مثل حماس وحزب الله. ويذهب استراتيجيون إسرائيليون، إلى أن إسرائيل «الثقيلة» تستطيع مواصلة الحرب ضد منظمات «نحيفة»، لمدة طويلة، واستغلال «الإنجازات المتدرجة» لحسم المعركة معها وتفكيك قوّتها بشكل «ممنهج وجذري».
الحرب لا تنتهي لأنه لم تجر إلى الآن محاولة فلسطينية جماعية جدية للوحدة ورص الصفوف، وإطلاق مبادرة فلسطينية لطرح مشروع لوقف الحرب وإعادة الإعمار. صحيح أن مبادرة من هذا النوع لن توقف الحرب، لكنّها كفيلة بتحريك الساكن العربي والدولي باتجاه إنهاء الحرب. حين يطرح حل فلسطيني متفق عليه للحالة القائمة، وحين يأتي الشعب الفلسطيني موحدا ويعرض مشروعه، لن يستطيع أحد تجاهله أو الالتفاف عليه.
من الواضح أن الحرب لا تنتهي ما دامت الأمور تسير كما هي عليه اليوم. وبالنسبة لإسرائيل فإنه حتى لو جرى التوصل الى وقف لإطلاق النار أو «هدوء مستدام» في إطار صفقة تبادل، فهي ستستأنف الحرب بعدها إلى حين تحقيق أهدافها، وإن فشلت فهي ستواصل الحرب لأشهر ولسنوات.
من المؤكّد أن الحرب لن تنتهي إذا لم يدخل إلى المعادلة تغيير وازن. وكما قال ابن سينا في كتابه «الإرشادات والتنبيهات»، قبل نيوتن بستة قرون «إن الجسم إذا خُلي طباعه، ولم يعرض له من خارج تأثير غريب»، فهو يبقى في حالة سكون، أو حركة منتظمة في خط مستقيم. واستنادا إلى الشيخ الرئيس مرة أخرى، فإن الميل الطبيعي للدولة الصهيونية هو مواصلة الحرب، إلا إذا أجبرت على «الميل القسري» بالضغط من الخارج. ولإنتاج هذا الضغط، وحتى لا تخلى إسرائيل لطباعها، يجب أولا أن يبدأ تحرك فلسطيني وعربي.
إرسال التعليق