من يكبح جماح إسرائيل؟
د. سنية الحسيني
في أقل من ١٢ ساعة ارتكبت إسرائيل جريمتا اغتيال، في قلب بيروت وطهران، موجهة لثاني أكبر شخصية عسكرية في جماعة حزب الله في لبنان، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في استفزاز صارخ من الواضح أنه يحمل بذور تأجيج وتصعيد. ارتكبت إسرائيل جريمتها الأولى بإستهداف فؤاد شكر، بحجة الرد على حادثة قرية مجدل شمس الدرزية في الجولان المحتل، بينما استهدفت الجريمة الثانية إسماعيل هنية، الزعيم السياسي لحركة حماس، في رسالة واضحة لفض مفاوضات التبادل مع الحركة. من الصعب فصل هذين الحدثين عن خطاب نتنياهو في الكونجرس قبل أيام، وما جاء فيه من رسائل، وعن حادثة مجدل شمس، التي اعتبرتها إسرائيل المحفز للرد على حزب الله، رغم تبادل الجهتين الاتهامات حول مرتكبها، في ظل دعوة لبنان لاجراء تحقيق في حيثياتها. من خلال طبيعة الشخصيات المستهدفة وأماكن الاستهداف يتضح أن إسرائيل بصدد إشعال المنطقة، وذلك إما حالياً، إن قررت إيران وحزب الله برد واسع، وإما في الأيام القادمة، إن حصلت إسرائيل على إشارات بعدم رغبة الجهتين بالانخراط بحرب واسعة، اذ سيكون ذلك مدخلاً للتصعيد المتصاعد تباعاً من قبل إسرائيل بعد ذلك.
حاولت الولايات المتحدة احتواء التصعيد في المنطقة وتحييد وصولها لحرب إقليمية، فسعت لاقناع إسرائيل مرارا وتكراراً للانخراط في مفاوضات هدنة وتبادل مع حركة حماس، وتدخلت لخفض التصعيد مع لبنان، واحتوت هجمة إيران على إسرائيل بعد اعتداء الثانية على قنصلية الأولى في دمشق واغتيال شخصية عسكرية وازنة، إلا أن الولايات المتحدة لم تنجح في كبح جماح إسرائيل طوال الأشهر الماضية، وباتت طرفاً في الأزمة في ظل التزامها بحماية إسرائيل. ويبدو الموقف أشد تعقيداً في الولايات المتحدة الآن، في ظل الظروف التي تمر بها البلاد والمتعلقة بالوضع الصحي الحالي للرئيس بايدن وبمعضلات الاستعداد للانتخابات الرئاسية المعقدة. بالعودة إلى خطاب نتنياهو في الكونجرس، هناك العديد من الرسائل التي أرسلتها الولايات المتحدة في استقباله، وأرسلها نتنياهو أيضاً، قد تفسر الأحداث المتلاحقة من بعده، في مجدل شمس وبيروت وطهران.
رغم الاتهامات له باقتراف جرائم إبادة جماعية، ودعوة النائب العام للمحكمة الجنائية باستصدار أوامر اعتقال بحقه وآخرين، وتصاعد الاحتجاجات ضده وحكومته في شوارع عواصم العالم مطالبة بوقف الحرب على غزة، بما فيها العاصمة واشنطن نفسها، بعد أن شهدت الولايات المتحدة حراك طلابياً وسياسياً خطيراً ضد هذه الحرب، واعتقد مراقبون أن خطاب نتنياهو في الكونجرس قد يحمل معه صفقة تبادل تحسن صورة الإدارة الأميركية، إلا أن الخطاب جاء على غير المتوقع، لكنه حمل رسائل عديدة. أهم رسائل نتنياهو جاءت للولايات المتحدة فاعتبر نتنياهو أن “انتصار” إسرائيل سيكون أيضا انتصارا للولايات المتحدة، داعيا البلدين إلى “البقاء متّحدين”، وهذه الرسالة تعكس الوعد الأميركي بدعم لا متناهي لإسرائيل، فسره التصفيق الهستيري له، الذي أراد الكونجرس إبرازه. وجاءت الرسالة الثانية مرتبطة بالأولى وتخص إيران وحلفاءها، فاعتبر نتنياهو أن الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاءهما من الدول العربية تواجه مجتمعة “محور الإرهاب” بقيادة إيران. واعتبر نتنياهو في خطابه أنه باستمراره في الحرب إنما يحمي أيضاً الولايات المتحدة، على اعتبار أن أعداء إسرائيل هم ذاتهم أعداء الولايات المتحدة والحلفاء العرب، ومعركة إسرائيل هي معركة الولايات المتحدة أيضاً. وليس خفياً المحاولات التي طالما بذلتها إسرائيل في الماضي لإقناع الولايات المتحدة بالتصعيد ضد إيران، بحجة الإدعاء بتطوير سلاح نووي، وهو ما عارضه الرئيس باراك أوباما، ووقف في وجه الرغبة الإسرائيلية، وقام بإبرام إتفاق مع إيران في العام ٢٠١٥، والذي عارضته إسرائيل، وتوترت على إثر تلك التطورات العلاقة بين اوباما ونتنياهو، الذي شغل منصب رئاسة الوزراء ايضا في حينه.
أشار نتنياهو في خطابه أيضاً إلى استمرار الحرب على غزة حتى تحقيق النصر الكامل. وفي توجهات تتناقض مع رؤية واشنطن، تعمد نتنياهو تجاهل الخوض في تفاصيل أي صفقة تبادل تسعى واشنطن لانجازها، وكشف في إجابته حول خطته لليوم التالي في غزة، والتي يتهم بمواصلته الحرب دون بلورتها، عن نية إسرائيل السيطرة على غزة عسكرياً لفترة من الزمن، لم يحددها، بعد إنتهاء الحرب، ونزع سلاحها، وتشكيل إدارة مدنية “غير متطرفة” فيها، دون الإشارة للسلطة الفلسطينية. كما أكد على نيته القيام بكل ما هو ضروري لضمان أمن الحدود مع لبنان، الأمر الذي يشير لتوجّهه بالضغط على حزب الله في الأيام المقبلة. يأتي ذلك في ظل وضوح نية نتنياهو بعدم التوجه لإنجاز صفقة تبادل، بما يعني تصاعد الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي المطالب بصفقة تبادل، في ظل دخول الكنيست في إجازته الصيفية الطويلة حتى نهاية شهر أكتوبر، والذي يعني صعوبة حدوث أي تطورات سياسية ذات مغزى، ناهيك عن عجز الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل في ظل الظروف السياسية الداخلية الأميركية الحالية.
كشف خطاب نتنياهو في الكونجرس عن حدة الانقسام السياسي التي تشهده أروقة صنع القرار تجاه حرب الإبادة في غزة، والتي برزت من قبل في الجامعات الأميركية وبين الشباب. شهد الخطاب تغيب عشرات المشرعين الديمقراطيين عن جلسة الكونغرس، التي ألقى خلالها نتنياهو خطابه فيها، في تعبير عن استيائهم من جرائم الإبادة في غزة، وهو عدد فاق ذلك العدد الذي قاطع خطابه في العام ٢٠١٥. ومن هؤلاء كان السيناتور المستقل بيرني ساندرز ونائبة الرئيس الأمريكي الحالي ومرشحة الرئاسة كامالا هاريس، في خروج عن التقاليد. وكان من بين المشرعين الذين حضروا من حمل رسالة سلبية لنتنياهو، كان من أبرزهم النائبة رشيدة طليب، التي ارتدت الكوفية وحملت لافتة كتب عليها مجرم حرب ومذنب بارتكاب إبادة جماعية. وتم دعوة العديد من الضيوف لحضور الخطاب للتغطية على الغياب الظاهر لعدد واضح من النواب والشيوخ. وتجمع آلاف المحتجين المعارضين للحرب، التي تشنها إسرائيل على القطاع، بالقرب من مبنى الكابيتول، قبل وأثناء تواجد نتنياهو فيه لإلقاء خطابه. وألغت الشرطة الأمريكية تصريح الاحتجاج للمتظاهرين في ميدان كولومبوس في واشنطن العاصمة، حيث اعتبرت الشرطة أن المتظاهرين منخرطون في نشاط “إجرامي” ويواجهون سلطات إنفاذ القانون.
وقد يكون حادث مجدل شمس الشرارة التي رغب نتنياهو أن يشعلها لتحقيق أهدافه التي بدت واضحة في خطابه في الكونجرس، في ظل توافر الظروف المناسبة التي تسمح له بذلك. ففي ظل المناوشات العسكرية المستمرة والمتصاعدة على الحدود مع لبنان، والمؤهلة للتدحرج في أية لحظة، ضرب صاروخ ملعب رياضي في القرية، وقتل وأصاب عشرات الأطفال. ومن الجدير معرفته أن القوى الدرزية في الجولان ومن بينها مجدل شمس ليست من ضمن مرمى تهديدات حزب الله، لذلك لم يتم اخلاؤها، كما أن قرية مجدل شمس من القرى التي تتمسك بهويتها الدرزية السورية، ويرفض معظم أبنائها الانخراط في جيش العدو، كما يرفضوا الحصول على الجنسية الإسرائيلية، ويعارضون احتلال وضم أراضيهم لدولة الاحتلال، وطالما اصطدم أبناء القرية مع قوات الاحتلال. وفي أعقاب الحادث، رفض أبناء القرية استقبال نتنياهو، كما طردوا سموتريتش، واتهموهم بقتل أبنائهم. ورغم إنكار حزب الله مسؤوليته عن الحادث، واصرار الدولة اللبنانية ضرورة اجراء تحقيق في ملابساته، للتأكد من الجهة التي أطلقت الصاروخ، الا أن إسرائيل اتهمت بشكل فوري حزب الله ووجهت لها أصابع الاتهام، وتبنت الولايات المتحدة كعادتها الرواية الإسرائيلية. أن ذلك الحادث يذكرنا بالمبالغات التي نسجتها إسرائيل والرويات المزيفة التي اختلقتها، خلال أحداث ٧ أكتوبر، لتبرر هجومها الاجرامي على غزة، وتبنتها الولايات المتحدة، رغم انكشاف زيفها بعد ذلك. كما يذكرنا ذلك أيضاً بجريمة الهجوم على مستشفى المعمداني في غزة، واتهام إسرائيل بأن المتسبب عن تلك الجريمة صاروخ فلسطيني، قبل أن تتكشف الحقائق بعد ذلك أيضاً.
لا شك أننا أمام أيام عصيبة، نواجه ارهاب دولة منظماً، تمتلك مقومات القوة التدميرية اللازمة للقتل والتدمير والابادة، دون وجود قوة دولية رادعة، الأمر الذي يحتم علينا الوحدة والتلاحم والوقوف صفاً واحداً لمواجهة ذلك التحدي الوجودي.
إرسال التعليق