فيلم اللص والكلاب .. بين العمل الأدبي والسينمائي

فيلم اللص والكلاب .. بين العمل الأدبي والسينمائي

بقلم المؤرخ والناقد الفني د. أحمد عبد الصبور

« نجيب محفوظ بين الرواية والفيلم »

لا يزال يمثل ” نجيب محفوظ ” ، ذلك الروائي العربي الذي حصل على جائزة « نوبل » للآداب حالة إبداعية خاصة ، ليس فقط لأنه هو مؤسس للرواية العربية الحديثة ، بل لأنه أيضاً من أكثر الكتاب العرب الذين أثروا السينما العربية ، سواء من خلال كتابة السيناريو مباشرة ، أو من خلال قيام كتاب سيناريو آخرين بإعداد سيناريوهات لأفلام عن رواياته وأعماله القصصية .

ومن أشهر تلك الأفلام : « بداية ونهاية ، اللص والكلاب ، زقاق المدق ، بين القصرين ، الطريق ، خان الخليلي ، القاهرة 30 ، قصر الشوق ، السمان والخريف ، دنيا الله ، ميرامار ، السراب ، ثرثرة فوق النيل ، صور ممنوعة ، السكرية ، الشحات ، الحب تحت المطر ، الكرنك ، الشيطان يعظ ، أهل القمة ، وكالة البلح ، أيوب ، الخادمة ، شهد الملكة ، المطارد ، التوت والنبوت ، الحب فوق هضبة الهرم ، الحرافيش ، الجوع ، وصمة عار ، أصدقاء الشيطان ، قلب الليل ، نور العيون ، ليل وخونة ، وسمارة الأمير » .

 

وبالإضافة إلى الأعمال التي كتبها ” نجيب محفوظ ” للسينما مباشرة وهي أفلام : « المنتقم ، لك يوم يا ظالم ، مغامرات عنتر ولبلب ، ريا وسكينة ، الوحش ، جعلوني مجرماً ، درب المهابيل ، النمرود ، الفتوة ، ساحر النساء ، الطريق المسدود ، الهاربة ، جميلة ، أنا حرة ، إحنا التلامذة ، بين السماء والأرض ، ثمن الحرية ، بئر الحرمان ، دلال المصرية ، الإختيار ، ذات الوجهين ، والمجرم » .

أن ” نجيب محفوظ ” يعد من أقدم الروائيين المصريين والعرب إرتباطاً بالسينما ، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته في هذا المجال منذ عام 1947م ، أو منذ أن إلتفتت السينما إلى روايته وبدأت في تحويلها إلى أفلام منذ عام 1960م ، ومن هذا المنطلق يجب أن نقارن العلاقة بين النص الأدبي وبين الفيلم ، مع توضيح لطبيعة العلاقة بين أي نص أدبي وبين الفيلم المـأخوذ عنه بشكل عام .

 

لدى المقارنة بين الرواية والفيلم المأخوذ عنها … يمكن الإستنتاج عموماً أن الرواية بقدر ما تحتفظ بخصائصها الأدبية والجمالية الخاصة باللغة الروائية بإعتبارها منجزاً شخصياً ، تتفوق دائماً على الفيلم الذي لا يستطيع أن يحافظ على المشاهد المتعددة للوصف الروائي ، بل يختصرها مثلاً إلى لقطة طويلة أو متوسطة ثم تدخل الكاميرا على الموضوع … لذلك تفقد الرواية خلال عملية التحويل الكثير من خصائصها الأسلوبية عندما تصبح فيلماً سينمائياً ، وإن كان للفيلم السينمائي جمالياته التي يمكن أن تضاف إلى رصيد الرواية كفن متطور .

إن كل دراسة لنص عمل فني ، ترتبط بالضرورة بعلاقتين قبلية وبعدية ، وبمرتكز منهجي ، ونسق السرد يتعلق بمكونات عدة لغوية ونفسية وفلسفية وإجتماعية ، ويعد عالم السرد الذي نسل من مضامين مطردة من نهج الحكي في جزء منه إطاراً وصفياً ذا بعد منهجي بنيوي وأسلوبي وتفكيكي ، وهو تجربة تعتمد وسائل شتى متداخلة شعورية ووجدانية تدخل في قيم جمعية شديد التعقيد والتضافر مع سلوكيات فردية .

 

وإنطلاقاً من هذه المحددات نجد أن عالم ” نجيب محفوظ ” مرتبط بمرجعيات زمانية ومكانية تعود الأولى لنجيب محفوظ منها إلى عمره التسعيني إذا ما ذهبنا معه في التقصي إلى أقاصي رواياته عند إبحار العمر على مقربة من نهابات المرافئ ، أما بعد مرجعياته المكانية فهي أرض مصر بكل تداخلات جغرافيتها ، فيما ينحصر عالمه الإجتماعي في إطار جماعة ناطقة بالعربية ومن أخلاط هذه المكونات المكتسبة ، نتج إبداعه الفني مرتكزاً على عوامل ذاتية الدافع متمثلة في مواهب وإستعداده الإرادي للعطاء الفني بتدرج وتماهي مع صرير وقع المتغيرات ، فمن روايات متناثرة نشرت له في حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم في بعض الإصدارات مثل مجلة الرسالة ، قام بجمعها وأصدرها تحت مسمى ” همس الجنون ” ، وكانت نهاية أقاصيه في تلك الحقبة مجموعة سردية ” قشتمر ” فقد صدرت هذه المجموعات من وعاء يحتوي على متفرسات قراءة متعمقة ومعرفة مدققة لمفردات واقع بلاد حين نشأ وجدها ترزح تحت نير المستعمر .

 

و” نجيب محفوظ ” ابن أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة إضافة إلى كونه دارساً للفلسفة فهو حاصل على ليسانس ، وهو من مرابع نشأته هذه منطلق غير جامد في قراءات بشكل مستمر متجاوزاً موقع إلى ما يليه ، غير غافل عن ملمات الزمن ، فقد تفتق وعيه كطفل نابه وهو في الثامنة من عمره فطالع وعيه أحداث ثورة 1919 ومن ثم عاش تداعياتها فكان أول ما إلتقط من تضاد وثقافة المتغيرات مع مكونات ما إلتمس خياله من ملاعب الطفولة وما لبث فوسمت رؤى الشاب القاص الحرب العالمية الثانية فمزجت دواته من ضروس معاناتها ، فلاح في أفق خيال الفنان فيه ما تساقط من محاذير على أعمدة ربط الإنسانية فكسرت تضامن الذات فيه مع كل ما هو إنساني فإفتعلت في دواخله تصادم الأيديولوجيا والمنولوجيا ، فإنسكب من مداد مدخولها رواياته في حقبة الأربعينيات … وشهدت شباباً فقد ذاته ، عبر مستويات عدة ، سياسية وإقتصادية ، وإجتماعية ، فإنفجرت إشراقة ثورة 1952م ، في شكل حركة عسكرية غطت مساحة الوطن وتداعت تأثيراتها فشملت تطلعات آفاق محيطها العربي وما وراءها من بلدان إفريقية .

 

غير أن الثورة تعثرت في مسيرتها وأصابها غير قليل من إمارات الخلل كشفت عن نفسها بوضوح في هزيمة 1967 م ، وما عقب حقبة من حقبة ساداتية وما شهدته من إنتصار منقوص تبعه من عدد من الممارسات على مستوى السلطة السياسية ألقت بظلال على الجماعات المصرية والعربية معاً ، فشكلت مناخات واقع روايات ( بداية ونهاية ) و ( زقاق المدق ) و ( القاهرة الجديدة ) و [ الثلاثية : ( قصر الشوق ) و ( بين القصرين ) و ( السكرية ) ] و( اللص والكلاب ) و ( السمان والخريف ) و ( الكرنك ) و ( يوم قتل الزعيم ) و ( حديث الصباح والمساء ) ، وهو في سرده يقدم لنا الواقع الإجتماعي للأسرة المصرية الكبيرة ، وهو ما يمكن أن نسميه طبقات من الفكرة وتيارات من السرد المتين التي تطوف في آفاق من المستقبل وهو هنا بعدية مخزون قبلي لما سوف تتطلع إليه دواخل مبدع من قراءة تنبؤية لما سيكون عليه المستقبل .

 

ومن بين تعاطي ” نجيب محفوظ ” مع الإصدارات من روايات أو في مجال الكتب تحت عناوين مختارة بعناية من واقع البئية أو من واقع ما جسمه مضمون النص ، إلى تعاطيه مع السينما كواحد من مشاهير الكيف والكم في هذا المجال على هذا الصعيد ، حيث كان أول من تعامل مع السينما كقطاع حيوي فبدأ التعامل معه منذ منتصف الأربعينيات .

 

أن الكثيرين من المهتمين بالسينما المصرية ، ومنهم نقاد ، لا يقرأون الآداب إلا قليلاً ، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان ، نظرة دونية فلا يتابعون الجديد منها ، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا نجوماً في السينما بفضل إبداعاتهم ، لذا ، فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة للغاية ، رغم هذا الكم الكبير من الأفلام الجيدة ، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب … مهما قيل أن الفيلم صورة فهو أيضاً قصة وحوار .

 

وكم قيل في هذه العلاقة بين الفيلم والنص الأدبي ، وكم نوقشت مسألة الإلتزام ، أو الخروج عن النص الأدبي ، وقد كانت أعمال ” نجيب محفوظ ” هي الأكثر جدلاً في هذا الأمر ، ليس فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية ، ولكن أيضاً لأن ” نجيب محفوظ ” هو أقدم الروائيين إرتباطاً بالسينما ، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته عام 1947م ، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته عام 1960م وحتى الآن … فليس هناك أديب آخر ظلت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذا السنوات الطويلة ، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المخرجين ، وفي مقدمتهم ” صلاح أبو سيف ” ، الذي كان يفخر دوماً أنه علّم ” نجيب محفوظ ” حرفية كتابة السيناريو ؛ لذا فإن مناقشة مسيرة ” نجيب محفوظ ” في السينما ستظل أمراً متجدداً في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية ، خاصة المقارنة منها .

 

وقد لفتت هذه العلاقة الكثير من الباحثين ، فقدموا العديد من الدراسات والمقالات في هذا الشأن ، حيث لوحظ أن هناك كتاب سيناريو تعاملوا مع النص الأدبي بإلتزام واضح في أفلام عديدة منها : ” اللص والكلاب ” ، و ” أهل القمة ” ، و” الحب فوق هضبة الهرم ” ، و ” بين القصرين ” ، وبدرجات مختلفة في ” السمان والخريف ” ، و ” الطريق ” ، و ” السكرية ” ، و ” الحب تحت المطر ” ، و ” ميرامار ” ، و” القاهرة 30 ” ، و” الحرافيش” ،،، وراحت أفلام أخرى تأخذ بعض السطور أو الفصول ، مثل : ” الخادمة ” و ” نور العيون ” ، و ” وصمة عار ” ، و ” ليل وخونة ” بينما من الصعب جداً أن نرى أي علاقة بين أفلام كتب في أفيشاتها إنها مأخوذة عن ” نجيب محفوظ ” ، دون أن تكون مأخوذة حقيقة عن أي من أعمال ” نجيب محفوظ ” ، مثل : ” الشريدة ” لأشرف فهمي ، و ” أميرة حبي أنا ” لحسن الإمام ، و ” فتوات بولاق ” ليحيى العلمي ، و” المذنبون ” لسعيد مرزوق .

 

وإذا توقفنا عند المقارنة بين النص الأدبي والسينمائي ، وعندما لا نجد أي شيء لا يستدعي لا المقارنة ، أو التحليل ، فلابد أن نتجاهل الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام ، فمثلاً بالبحث عن الأصل الأدبي لفيلم ” فتوات بولاق ” ، فإن معركة مفتعلة قد قيلت في بداية الثمانينيات أن الأصل هو ” الشيطان يعظ ” ، علماً أن هذا الإسم هو للمجموعة ، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم ، وقد قيل آنذاك أن القصة بيعت مرتين ، كما إدعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص ” أولاد حارتنا ” ، وهذا ليس صحيحاً ، كما أن البعض ذكر ، أن الفيلم ماخوذ من الحكاية رقم (22) في رواية ” حكايات حارتنا ” وبقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين ، إتضح أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم ، والأرجح أنها مأخوذة من ” الشيطان يعظ ” .

 

أما ” أميرة حبي أنا ” فالفيلم مأخوذ عن واحدة من قصص ” المرايا ” ، وهناك تشابه واضح للغاية بين بطلة القصة وبين ” أميرة ” ، كما أن كاتب السيناريو ” أحمد صالح ” قد كتب سيناريو مختلفاً تماماً عن أقصوصة ” الشريدة ” ، المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب بإسم ” همس الجنون ” عام 1939م ، وقد كتب مقالاً في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة ، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام 2009 م .

 

إذاً ، نلاحظ عند المقارنة بين النصين دون الرجوع إلى أي مراجع أخرى وبشكل متعمد ، سوى النص الأدبي كقراءة ، والفيلم كمشاهدة ، كما لن نرجع إلى ما كان يردده ” نجيب محفوظ ” عن عدم تدخله في الفيلم ، بإعتباره وسيلة مختلفة ، ونحن لم نر في العالم كاتباً يتدخل بالمرة في حذف أو لإضافة لفيلم مأخوذ عن رواية أدبية له فالكاتب لم يشارك قط في كتابة أي من الأفلام المأخوذة عن نصوصه الأدبية ، ولا نعلم ماذا كان سيؤول إليه النص لو قام بذلك ، لكننا نذكر أن كتاباً عديدين تركوا زميلهم ” نجيب محفوظ ” يكتب لهم سيناريوهات أفلام مأخوذة عن قصصهم … مثل : ” إحسان عبد القدوس ” ، في ” أنا حرة ” ، و ” بئر الحرمان ” .

 

ولعل تدخل أي كاتب في روايته قد تجلى بشكل واضح في تجربة ” صبري موسى ” ، وهو يقوم بكتابة سيناريو فيلم ” حادث النصف متر ” ، فبدأ كأنه يكتب سيناريو لرواية مختلفة تماماً عن روايته … والأمر يحتاج إلى بحوث عديدة عن السينما في كل أنحاء الدنيا .

 

ويشار أن ” نجيب محفوظ ” تدور أحداث جميع رواياته في مصر ، وتظهر فيها سمة متكررة هي الحارة التي تعادل العالم .

 

ولعل أشهر ما قاله ” نجيب محفوظ ” :

” أنا غير مسئول عن ما يراه المشاهد … أنا مسئول عن ما كتبته ” .

 

 

( النهايات ) … بين الرواية والفيلم عند ” نجيب محفوظ ”

عـــــن المـــــــــــوت الـــــــــذي أصــــاب الأبــــــــريــــاء

 

هناك سمات بالغة الوضوح فى مصائر البشر حسب روايات ” نجيب محفوظ ” ، خلال المراحل الفنية المتعددة فى مسيرته ككاتب .

فإذا إستثنينا الروايات التاريخية الثلاث التي نشرها الكاتب في بداية حياته ، فسوف نرى أن المرحلة التالية من الكتابة ، إبتداء من رواية ” فضيحة في القاهرة ” وحتى الثلاثية ، فإن المؤلف تعمد أن تكون نهايات أبطاله مأساوية للغاية ، وقد وضع فى خططه الإبداعية ، أن أبطال النصوص الأدبية والمسرحية العالمية الذين ماتوا في نهايات هذه الأعمال ، قد كتب لهم الخلود والشهرة ، أكثر من الأبطال الذين عاشوا نهايات سعيدة في الكثير من الروايات ، لذا فإن الروايات التي تنتمى إلى المرحلة الثانية قد إنتهت بمأساويات كبيرة ، سواء بالموت ، بأشكاله المتعددة ، والمتنوعة ، أو بالسقوط في الخطيئة ، ودفع ثمن ما تم إرتكابه .

إلا أن الموت أصاب الأبرياء فى نهايات هذه الروايات أكثر مما أصاب من إقترفوا الجرائم ، أو الموبقات ، مثل نهاية ” رشدي عاكف  في ” خان الخليلي ” ، ونهاية ” عباس الحلو ” في ” زقاق المدق ” ، ونهاية ” رباب ” في ” السراب ” ، ونهاية ” حسنين ” وأخته ” نفيسة ” في ” بداية ونهاية ” ، ثم نهاية فهمي في ” بين القصرين ” .

وقد توقفت هذه الروايات القدرية وتغيرت أشكالها في إبداع ” نجيب محفوظ ” ، في الروايات التي كتبها بما يمثل المرحلة الثالثة ، التي بدأت برواية ” اللص والكلاب ” ، فالنهايات المأساوية لبعض الأبطال ، هنا تتناسب مع ما إقترفوا من جرائم ، أي أننا لم نكن هنا أمام أبرياء نتعاطف معهم بشدة ، وهم يدفعون حيواتهم مقابل ما لم يقترفوه ، إلا أن أغلب أبطال روايات المرحلة الثالثة ، قد إرتكبوا الجرائم ، ونالوا ما يستحقون من عقاب ، من نفس نوع الجريمة ، فـ ” سعيد مهران ” في رواية ” اللص والكلاب ” ، يقرر أن يسلم نفسه للشرطة ، أثناء مطاردتها له ، وقد وجد أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة ، مما يعني أنه سوف يعدم عن جرائم القتل التي إرتكبها ، أما ” صابر الرحيمي ” ، فإن مصيره هو حبل المشنقة ، لقيامه بقتل عشيقته وزوجها ، والمأساة التي تتضاعف بالنسبة للقاتل في الرواية ، حيث يزف إليه المحامي وهو يقترب من المشنقة خبر عثوره على أبيه الذي يبحث عنه .

أما ” عيسى الدباغ ” ، في نهاية رواية ” السمان والخريف ” ، فقد نال العقاب من نوع الجزاء نفسه ، حيث تنكر ” ريري ” أي معرفة به ، حين عاد إليها ، في المقهى ، يخبرها أنه سيعترف بإبنته التي نسبتها إلى زوجها الراحل العجوز ، ومثلما طردها ” عيسى الدباغ ” فيما قبل ، فإن ” ريري ” العاهرة السابقة ، تنكر أنها تعرفه وتطرده أيضاً شر طردة .

وفيما بعد تعددت النهايات ، وتغيرت أشكالها ، منها الإختفاء الغامض للفتاة ” زهرة ” في نهاية رواية ” ميرامار” وأيضاً نهاية رواية ” ثرثرة فوق النيل ” ، حيث سيتم إيقاف ” أنيس ” عن العمل ، ويحال إلى النيابة الإدارية ، بتهمة النوم أثناء العمل ، وتنشب مشاجرة بين ركاب العوامة لأول مرة .

” نجيب محفوظ ” الذي إختار نهايات رواياته بمحض إرادته ، وكتب هذه المصائر المأساوية ، والمتباينة لشخوص رواياته الرئيسيين ، ولم يتدخل قط في صياغة سيناريوهات الأفلام المأخوذة عن رواياته ، أو عن قصصه القصيرة ، وترك كتاب السيناريو يلتزمون بالنهايات التي إختارها ، وكتبها ، أو يقومون بتغيير النهايات ، كل كاتب سيناريو حسب رؤيته في المقام الأول … ونحن نقول هنا كتاب السيناريو ، لأن الكثير من هذه النصوص لم يتدخل المخرجون في صياغتها .

كانت نهايات روايات ” نجيب محفوظ ” متقاربة المصائر البشرية في الكثير من الأحيان ، وهي كما أشرنا ، مصائر مأساوية تماماً ، وقد إعتمدت نصوص كثيرة على شخصية رئيسية واحدة ، أو أكثر بقليل .

ولا شك أن دراسة ما آل إليه أبطال الأفلام المأخوذة عن روايات ” نجيب محفوظ ” ، ومصائر هؤلاء الأبطال في الروايات يدفع الباحث لعقد مقارنة ملحوظة بين النهايات في كلاً من الأفلام والروايات ، بإعتبار أن القصص القصيرة التي تحولت إلى أفلام عن ” نجيب محفوظ ” لم تكن لها أي علاقات ، من قريب أو بعيد ، بالأفلام التي أخذت من ” نجيب محفوظ ” فقط إسمه ، وعنوان العمل ، بدأ هذا واضحاً في نصوص سينمائية حملت إسم ” نجيب محفوظ ” ، على رأسها : ” أميرة حبي أنا ” ، و ” الشريدة ” ، و ” الخادمة ” ، و ” صور ممنوعة ” ، و ” المذنبون ” ، و ” نور العيون ” ، وغيرها …

ولذا فإن هذه الدراسة سوف تتوقف عند المقارنة بين الرواية التى كتبها ” نجيب محفوظ ” ، وبين الفيلم المأخوذ عن الرواية علماً بأن هناك روايات تم تحويلها إلى السينما فى أكثر من فيلم مثل ” اللص والكلاب ” ، و” الطريق ” .

وهناك عدة مراحل لعقد المقارنات بين الرواية والفيلم ، لكننا سوف نتوقف عند ثلاثة أنماط من النهايات ، من حيث تشابه كل منها ، أو إختلافها بين الرواية ، والفيلم ، هذه الأنماط تتمثل في الآتي :

– التشابه الكامل في الروايات بين الفيلم والرواية .

– الإختلاف الكامل في النهايات بين الفيلم والروايات .

وكما أشرنا ، فليس هناك منوال بعينه سار عليه كتاب السيناريو الذين أخذوا على عاتقهم تحويل الروايات إلى أفلام ، خاصة في فترة ” الستينيات ” ، من تحويل روايات الكاتب إلى أفلام ، تنوعت أسماء كتاب السيناريو ، لدرجة أن بعضهم لا نكاد نعرفه بعيداً عن تعامله مع روايات ” نجيب محفوظ ” ، ومنهم : ” صلاح عز الدين ” ” بداية ونهاية ” ، و ” صبري عزت ” ” اللص والكلاب ” ، و ” سعد وهبة ” الذي لم يتعامل مع نصوص الأديب سوى مرة واحدة في ” زقاق المدق ” ، وأيضاً ” يوسف جوهر ” الذي لم يتعامل مع نصوص الكاتب أيضاً سوى في ” بين القصرين ” ، و ” حسين حلمي ” المهندس الذي كتب له فيلماً واحداً هو ” الطريق ” ، لكنه فيما بعد إستعذب بعض كتاب السيناريو نصوص ” نجيب محفوظ ” ، فكرروا التجربة أكثر من مرة ، وكان على رأسهم ” علي الزرقاني ” ، و ” محمد مصطفى سامي ” ، و ” ممدوح الليثي ” ، وفيما بعد قام ” مصطفى محرم ” بكتابة السيناريو لعدد من الأفلام مأخوذة عن ” نجيب محفوظ ” .

كان يمكن أن نتوقف عند علاقة كلاً من هؤلاء كتاب السيناريو بنصوص الكاتب ، بإعتبار أن كل منهم كان له أسلوبه في التعامل مع النص ، خاصة الذين تكرر تعاونهم معه ، وهم : ” ممدوح الليثي ” ، و ” مصطفى محرم ” ، لكن لا شك أن هذه المقارنة سوف تأخذنا إلى منحنى بعيداً عن الدراسة ، وإن كان يمكن أن نستفيد لدرجة أن ” ممدوح الليثي ” كتب سيناريو وحوار فيلم ” المذنبون ” ، دون أن نجد نصاً أدبياً مكتوباً يحمل هذا المعنى ، أو الحكاية ، فيما يخص النصوص المنشورة في كتب ” نجيب محفوظ ” .

 

أولاً : التشابه بين نهايات الروايات والأفلام :

يرجع هذا الأمر إلى رؤية كاتب السيناريو إلى النص في المقام الأول ، وبصرف النظر عن تفاصيل كاملة من الرواية والفيلم ، فإن أغلب الذين يكتبون السيناريو ، ومنهم ” نجيب محفوظ ” نفسه ، يتعامل مع الفيلم على أنه نص فني مختلف تماماً عن الرواية ، وأن من حقه ، حسب إمكانياته ، أن يقوم بعمل نص مختلف ، أو متشابه ، حسب رؤيته ، وذلك بصرف النظر عن حجم الرواية ، ومدى مواءمتها لأن تكون فيلماً .

وما دمنا بصدد الحديث عن النهايات ، بإعتبارها الأكثر تأثيراً في أذهان المشاهدين أو القراء ، وبإعتبارها حصيلة كل هذه الأحداث المتراكمة ، والصراعات المتجددة بين الشخوص في النص الأدبي ، أو السينمائي ، وبإعتبارها المصائر التي أولت إليها الشخصيات ، فإن القليلين من كتاب السيناريو ، قد إرتبطوا بالنهايات نفسها الموجودة في الروايات ، بإعتبار أن الأمر إختلف بالنسبة للأفلام المأخوذة عن القصص القصيرة ، كما سبقت الإشارة .

ومن بين الأفلام التي تشابهت فيها النهايات بين الرواية والفيلم ، هناك : ” بداية ونهاية ” لصلاح أبو سيف عام 1960م ، و ” بين القصرين ” لحسن الإمام عام 1964م ، و ” خان الخليلي ” لعاطف سالم عام 1966م ، و ” قصر الشوق ” لحسن الإمام عام 1967م ، و ” السراب ” لأنور الشناوي عام 1970م ، و” الشيطان يعظ ” لأشرف فهمي ، و ” شهد الملكة ” لحسام الدين مصطفى عام 1985م ، و ” التوت والنبوت ” لنيازي مصطفى عام 1986م .

هذه الافلام كلها تباينت فيها أسماء المخرجين بمدارسهم ، وأيضاً كتاب السيناريو ، بإتجاهاتهم ، وأنشطتهم ، وقد بدت هذه الظاهرة واضحة للغاية ، في ” بداية ونهاية ” ، حيث أن ” صلاح أبو سيف ” هو المخرج الأكثر قرباً من ” نجيب محفوظ ” ، وهو الأكثر إهتماماً بتحويل النصوص الأدبية إلى أفلام ، ولم يشارك المخرج في كتابة السيناريو هنا كعادته ، بل ترك الأمر لكاتب سيناريو موهوب ، لم يعمل كثيراً بالسينما ، هو ” صلاح عز الدين ” ، الذي وجد نفسه أمام نص مهيب ، عملاق ، فصار عليه أن يلتزم به ، ولم يسع إلى تغييره بشكل عام ، ومن هنا جاءت المصائر متشابهة بين الرواية والفيلم لكافة الأبطال ، إبتداء من ” حسن ” ، ثم قيام ” حسنين ” بدفع أخته ” نفيسة ” للسقوط في النيل عقاباً لها على ما جلبته من العار للأسرة ، بممارستها الدعارة ، ثم ، وبكامل إرادته ، سعى إلى أن يلحق بها ، فقفز وراءها ، لتبلغ مأساة الأسرة المنكوبة دوماً قمتها ، وهي تفقد ثلاثة أفراد في الليلة نفسها .

النهاية في هذا الفيلم ، لم تتغير قيد أنملة عن الرواية ، بما فيها الحوار الداخلي الذي يعتمل فى صدر ضابط الحربية ، حيث وجد كاتب السيناريو أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، فإلتزم بأن يقتل الفيلم بطليه مثلما فعل الكاتب ، الذي وصف مشهد إنتحار ” حسنين ” على النحو التالي : ” وبلغ الوضع نفسه من الجسر فإرتفق السور ، وألقى ببصره إلى الماء التي تتدافع أمواجه في هياج وإصطخاب ، وأحنى رأسه من الفكر : إذا أردت أن أصرخ فلأكن شجاعاً ولو مرة واحدة ، ليرحمنا الله … ” .

إنها النهاية المأساوية التي فرضها المؤلف على أبطالها ، وهي أشبه كثيراً بالمأساويات اليونانية القديمة ، وقد عاقب الكاتب بطلته الدميمة الفقيرة لممارستها الدعارة ، كما عاقب أخاها الذي إستعذب نقود مصدرها هذه الدعارة ، دون أن يسأل عن مصدرها …

ولنا أن نتصور لو أن ” صلاح أبو سيف ” قد أخرج هذا الفيلم عام 1977م ، حين أخرج فيلمه ” السقا مات ” حيث سيموت السقا إثر إنهيار جدار منزله عليه ، لقد قام المخرج بتعديل نهاية الفيلم ، كما شرح موضحاً ذلك ، في اللحظة الأخيرة ، وأنقذ السقا من الموت ، وهو الذي كان قد صور الجدران مشروخة دوماً … تمهيداً لقتل السقا … إلا أن المخرج قرر أن يهب الحياة لبطله في الفيلم ، وأعتقد أنه لو أخرج ” بداية ونهاية ” ، في فترة السبعينيات ، لوهب الحياة لواحد من بطليه أو للأثنين معاً .

أما ” بين القصرين ” ، فقد إنتهت سطور الرواية ، والأب ” أحمد عبد الجواد ” يدخل بيته حزيناً ، بعد أن بلغه نبأ مصرع إبنه ” فهمي ” ، بينما يدندن ” كمال ” بأغنية : زوروني كل سنة مرة .

الفيلم بدأت أحداثه من نهاية الرواية ، فهذا هو الأب السيد ” أحمد عبد الجواد ” يمشي في أزقة وحارات القاهرة القديمة ، المظلمة ، في حالة حزن شديد وشرود ، وتنتقل الكاميرا به إلى العديد من الأماكن لتصوره في هذا الحال ، على خلفية موسيقى تصويرية لأغنية ” زوروني كل سنة مرة ” ، أي أن السيناريو الذي كتبه يوسف جوهر بدأت أحداثه من نهاية الرواية .

في الصفحات الأخيرة من الرواية ، وفي أمسية يوم المظاهرات ، جاء ثلاثة شبان إلى دكان ” أحمد عبد الجواد ” ، وقال أحدهم : ” يؤسفنا أن ننعي إليك أخانا المجاهد فهمي أحمد ” ، وفي الفيلم إشارة إلى أن ” فهمي ” مات ومعه ثلاثة عشر شهيداً ، وقد فهمنا أن الإنجليز أطلقوا الرصاص رغم أنهم أعلنوا أن المظاهرات ستكون آمنة ، إلا أن النص الأدبي لم يشر إلى ذلك … ويردد زملاء النضال : ” لا يليق أن يشيع فهمي فى جنازة عادية ، كمن قضوا في بيوتهم ” .

ورغم تشابه الأحداث بمصرع ” فهمي ” بين الرواية والفيلم ، فإن الفيلم أضاف حديث الأب لزوجته : ” فهمي مات يا أمينة ، قتلوه الإنجليز ” … وما تكاد تصرخ حتى يقول بحزم : ” مش عايز صويت يا أمينة ” ، وتظهر صورة ” مريم ” على الحائط ، ويأتي صوت المعلق : ولم يكن موت ” فهمي ” نهاية المرحلة ، فإن دماءه الطاهرة أمدته بالشعب ” ، وذلك على نغمات بلادي بلادي ، ولقطات لمظاهرات جديدة ، وطلقات رصاص ، وأجراس كنائس ، ونداء الآذان ثم تظهر لوحة تملأ الكادر ( إلى اللقاء في قصر الشوق ) …

” يوسف جوهر ” الأديب ، كاد أن يلتزم بالنص الأدبي ، خاصة في مشهد الرواية ، ولا شك أن ” فهمي ” دفع حياته من أجل الوطن ، يرفع من قيمته الدرامية سواء في الرواية أو الفيلم ، ويعلي من قيمة الشخصية والحديث ، وتساعد الوفاة في إبقاء شخصية ” فهمي ” في الذاكرة ، والغريب أن الجزء الثاني من الفيلم ، تحت عنوان ” قصر الشوق ” ، لم يكتبه أديب مثل ” يوسف جوهر ” ، بل أسندت الكتابة إلى ” محمد مصطفى سامي ” ، الكاتب الذي كان دائم التعاون مع ” حسن الإمام ” ، يقدم له أعماله على مقاسه في الميلودراما الفاقعة ، ومن النادر أن كتب سيناريو عن نص لرواية عربية ، وإن كان قد أجاد كثيراً ، في تحويل رواية ” خان الخليلي ” إلى فيلم ، والتي سنرجىء الحديث عنها إلى ما بعد مقارنة الرواية والفيلم في ” قصر الشوق ” .

في الفصل 41 من الرواية يعود ” أحمد عبد الجواد ” إلى العوامة ، هذا الفصل غير موجود في الفيلم ، ليغازل ” جليلة ” و ” زبيدة ” ، لقد أفل نجم ” جليلة ” ، ولم تعد ” زبيدة ” تجد حولها غيره ، فيبدو الرجل كأنه لم يتجاوز الأربعين ، راح يرقص مع النغمة ، رافعاً الكأس التي لم يبقى فيها إلا الثمالة أمام عينيه .

وقد صورت الرواية أن المرض الذى أصاب ” أحمد عبد الجواد ” بسبب إسرافه في العوامة ، أما في الفيلم فإن ذلك حدث بسبب مرضه حزناً على ما فعلته ” زنوبة ” ، وكانت النتيجة في الحالتين أن جاءت ” زنوبة ” لتزور المريض عشيقها السابق ووالد زوجها ، وجد الجنين الذي يكمن في بطنها ، إستقبلتها الأسرة كلها ببشاشة ، وعاد ” ياسين ” إلى ” بين القصرين ” ، وإمتلأ البيت بالأبناء والبنات وزوجيهما ، وكان المشهد مؤثراً للغاية في الفيلم ، حين تنحني ” زنوبة ” لتقبل يد ” أحمد عبد الجواد ” وتكون هناك إشارة إلى التيفوئيد الذي سيجبر أبناء ” خديجة ” و ” عيشة ” لكي يأتون للإقامة في بين القصرين ، ليكون المشهد النهائي في البيت المظلم الحزين ، أن ولادة ” زنوبة ” متعسرة ، والصيغة التي تنشر خبر وفاة ” سعد زغلول ” هو يعني كان أحسن من اللي راحوا ” ، وينحني ” ياسين ” ليقبل يد أبيه ” زنوبة بتولد ” ، وعناق بين ” كمال ” وأبيه الذي بدت عليه علامات السن والكهولة …

… بالنسبة لفليم ” خان الخليلي ” عام 1966م ، فأغلب الظن أن السيناريو الذي كتبه ” محمد مصطفى سامي ” كان موجهاً إلى ” حسن الإمام ” ، وهو كاتب السيناريو الذي لم يعمل كثيراً بعيداً عن هذا المخرج ، وقد إتضح هذا في مشهد قيام المعلمة بالرقص في المخبأ ، أثناء الغارة ، وهو المشهد غير الموجود في الفيلم ، ولا نعرف كيف ذهب السيناريو الذي أنتجته شركة القاهرة للسينما إلى ” عاطف سالم ” ، وقد بدأ النص الأدبي مشابهاً تماماً للفيلم ، وإلتزم السيناريو بتصوير النهاية المأساوية نفسها التي لحقت بالأخ الأصغر ” رشدي ” ، الذي كان مصيره الموت إثر تعاظم مرض السل الرئوي في جسد الشاب العاشق …

عايشنا في الرواية ، والفيلم ، الأيام الأخيرة لرشدي عاكف الذي فصل من وظيفته ، وإسترد وديعته من المصرف ودخن سيجارة ، وقد نفذ الفيلم مشهد وفاته بدقة ، كما وصفها المؤلف ” إنفتح باب الحجرة بقوة ، وبدت أمه على عتبته وقد رفعت ذراعيها فوق رأسها كمن يستغيث ، ثم هوت على خديها تلطمه بعنف وجنون ” .

في الفيلم ، بعد وفاة رشدي ، هجرت الأسرة خان الخليلي متجهة إلى مسكن جديد ، غير معلوم العنوان ، وفي الفصل (49) من الرواية يقول ” نجيب محفوظ ” : تلا وقت حافل بالأحداث الحربية الهائلة ، فإنسحب الجيش الثامن من جسر الفرسان ، وفي النصف الثاني من يوليو سقطت طبرق في أيدي الألمان ، وكان قد إنقضى على وفاة ” رشدي ” أربعة أسابيع ، وقد جاءت ” نوال ” إلى الأم تعتذر لها عن موقفها السلبي ، بما يعني أن ” نوال ” لم تأت إلى ” رشدي ” تتوسل لقاءه ، وفي أغسطس إهتدى ” أحمد عاكف ” إلى شقة خالية بضاحية الزيتون ، أي أن الإنتقال إلى مسكن جديد ثم بعد رحيله بستة أشهر على الأقل .

مازالت الروايات التي تمثل المرحلة الثانية من إبداع ” نجيب محفوظ ” ، تمثل الجانب الأكبر بين النهايات التي تشابهت مع نهايات الأفلام ، ومنها رواية ” السراب ” التي تم حذف الكثير من تفاصيلها عندما تحولت إلى فيلم ، أن هناك أسرة متكاملة في حياة كامل رؤبه ، وفي الفصل (60) من الرواية تم إجراء عملية للزوجة ” رباب ” ، بعيداً عن أعين زوجها ، الذي كان أخر من يعلم ، وأن الطبيب المعالج شاب مبتدىء أخصائي الأمراض التناسلية ، أما الطبيب في الفيلم ، فهو نفسه الذي وقعت في الخطيئة معه ” جسد الدور رشدي أباظة ” ، وتموت ” رباب ” من جراء العملية ، أما ” رباب ” في الفيلم ، فسعت إلى إجهاض نفسها حتى أصابها النزيف ، أما العملية فقد تمت في الرواية ، في بيت أم رباب ، يقول الطبيب إن الوفاة سببها حدوث ثقب في البروتون نتيجة خطأ خارج عن إرادته ، ويتم تحويل الأمر إلى النيابة .

بغض النظر عن التفاصيل ، فإن التشابه هنا يأتي بموت ” رباب ” ، وفى نهاية الفيلم تمرد ” كامل ” على أمه ثائراً ” حبك ليه كان زائد عن حده فطمتيني وأنا عندي أربع سنين ” ، ثم يخرج مهرولاً من البيت وسط الظلام .

أما ” كامل ” في الرواية فيغادر البيت دون أي تمرد ، أو أن يرى أحداً من أهله وتنتقل الأحداث إلى ميدان الإسماعيلية … وفي بيت أمه يدور حوار مليء بالقسوة مع أمه ، ويعرف أن ” رباب ” قد ماتت وهي حامل : إذهبي إلى أختي أو إلى أمي وأحسبيني منذ اليوم في عداد الأموات .

” الشيطان يعظ ” ، هو نص سينمائي مأخوذ من رواية قصيرة تحمل عنوان ” الرجل الثاني ” منشورة في المجموعة القصصية ” الشيطان يعظ ” ، وقد كتب ” أحمد صالح ” السيناريو ، يدور النص الأدبي على لسان الراوية ، أو المؤلف نفسه ، الذي يبدو كأنه يختصر الأحداث في الفصل الأخير حيث يعود للتحدث بلسانه كراوية حيث نعرف أن ” شطا الحجري ” قد مات ، وأن ” الديناري ” خرج من السجن وفرضت عليه رقابة ، وقيل إن ” الديناري ” هو الذي تكفل بدفن ” شطا ” الذي إعتبر الرجل الثاني .

وحسب النص الأدبي فإن الزوجين ” شطا ” و ” وداد ” ، لم يقيما في حارة الشبلي سوى خمسة أيام ، أما الفيلم فقد أطال المدة إلى شهور ، بالطبع من أجل أن تتعاظم شدة حادث الإغتصاب ، حيث إغتصب ” الشبلي ” الزوجة أمام عيني زوجها ، ويعود الزوجان إلى ملاذهما الوحيد ، حارة الديناري ، تعيش ” وداد ” في بيت أبيها ، ويرجع شطا إلى أمه ، يزور ” الديناري ” ” شطا ” ويطرده من الحارة ، يردد : شبلي لم يغتصب وداد زوجتي ، إنما هو هتك عرض خطيبتك .

في النص لم يستفز ” الديناري ” إلى بعد أن جاءته الأقاويل بأن ” الشبلي ” يفخر بذلك ، أما الفيلم فقد نبهت هذه العبارة الفتوة أن ينتقم ، لقد غير كاتب السيناريو ” أحمد صالح ” بعضاً من الأحداث الأخيرة ، حيث صور الفيلم المزيد من التفصيلات ، فشبلي هو الذى يشن هجوماً على الحارة التي يتزعمها الديناري ، وتكون فرصة للمواجهة الحاسمة بين ” شطا ” و ” الشبلي ” ، حيث يغرس الشاب سكينة في جسد خصمه ، ويخرج الكبد ، ويرفعه وسط الجماهير المتلاحمة ، وهو يصيح :

– شبلي مات … شبلي مات .

ويموت ” شطا ” ، كما في النص الأدبي ، عندما يقطع أحد أعوان الشبلي رأسه ، وفي اللحظة نفسها تلد ” وداد ” إبنها .

من الصعب أن نتتوقف عند كل النصوص الأدبية التي كتبها ” نجيب محفوظ ” ، التي تشابهت نهايتها مع نهاية الأفلام ، خاصة في مصائر الأشخاص ، بالبقاء على قيد الحياة ، أو بالموت المقصور بفعل فاعل … لذا ، سوف نتحدث الآن عن :

ثانياً : النهايات السينمائية المختلفة عن نهايات الروايات :

ترى هل هناك إختلاف حاد بين المصير الذي آل إليه ” سعيد مهران ” في نهاية رواية ” اللص والكلاب ” ؟ وهو يقرر تحت ضغط حصار الشرطة الشديد له أن يقوم بتسليم نفسه إلى العدالة ، وهو القاتل أكثر من مرة ، وبين مصير ” سعيد مهران ” في الفيلم الذي أخرجه ” كمال الشيخ ” ، حيث قرر الصمود في مواجهة رجال الشرطة ، فحاول الهرب ، والمراوغة ، وأطلق الرصاص أكثر من مرة ، ثم مات تحت وابل رصاص مطارديه ، وأخذوه فوق المحفة ، وذهبوا به .

النهاية المفتوحة في الرواية تعني أنه لا تزال هناك أنفاس في حياة ” سعيد مهران ” ، وأنه سوف تشهد حياته المزيد من الفصول ، من محاكمة ، وصدور أحكام ، غالباً ما تكون بالإعدام شنقاً ، أما الفيلم ، فقد حسم أمر نهاية بطله ، ومنحه الموت فوق طبق مليء بالرصاص ، والعبثية ، ليجعل من بطله ضحية الذين خانوه ، وماذا لو إمتطى السرج .

وهكذا فإن أغلب الروايات التي كتبها ” نجيب محفوظ ” في المرحلة الثالثة ، كانت نهاياتها مفتوحة ، لكن السينما حسمت الكثير من هذه النهايات ، بحكايات مصيرية ، إما بالموت أو الزواج ، أو ما يسمى بالنهاية السعيدة ، وقد حدث ذلك في كلاً من ” اللص والكلاب ” ، و ” الطريق ” ، و” السمان والخريف ” ، و” ميرامار” ، و ” الشحاذ ” ، و ” الكرنك ” ، و ” حب تحت المطر ” ،،، وغيرها ، حيث بدأ ” نجيب محفوظ ” أكثر رحمة بأبطالها مهما كان سلوكهم ، فلم تمت الشخصية الرئيسية في هذه الأفلام ، بل ظلت مصائرهم معلقة ، وإن كانوا على شفا أن يدفعوا ثمن ما إقترفوه ، مثل ” سعيد مهران ” ، و ” صابر الرحيمي ” ، و ” عيسى الدباغ ” ، و ” زهرة ” ،،، وآخرين .

 

 

« فيلم اللص والكلاب بين العمل الأدبي والسينمائي »

 

فيلم اللص والكلاب … هو فيلم مصري إنتاج عام 1962 م ، مأخوذ عن رواية بنفس الإسم للكاتب ” نجيب محفوظ ” .

 

تاريخ الصدور : 12 نوفمبر 1962 م .

مدة العرض :    180 دقيقة .

 

الطاقم :

المخرج :  كمال الشيخ .

الإنتاج :   جمال الليثي .

قصة : نجيب محفوظ .

سيناريو :  صبري عزت .

             كمال الشيخ .

حوار :  صبري عزت .

البطولة : شكري سرحان .

           كمال الشناوي .

           شادية .

موسيقى : أندريا رايدر .

طاقم التمثيل :

شكري سرحان : في دور ( سعيد مهران ) .

شادية : في دور ( نور ) .

كمال الشناوي : في دور ( رؤوف علوان ) .

فاخر فاخر : في دور ( الشيخ ) .

سلوى محمود : في دور ( نبوية زوجة سعيد ) .

صلاح منصور : في دور ( مسجون ) .

عدلي كاسب : في دور ( المخبر حسب الله ) .

زين العشماوي : في دور ( عليش سدرة ) .

نظيم شعراوي : في دور ( مدير الأمن ) .

صلاح جاهين : في دور ( المعلم طرزان ) .

سمير صبري : في دور ( طالب ) .

إبراهيم فتيحة : في دور ( مسجون ) .

كامل أنور :  في دور ( صبي القهوة ) .

عبد المنعم إسماعيل : في دور ( القهوجي ) .

فيفي يوسف : في دور ( زميلة نور ) .

مطاوع عويس : في دور ( مسجون ) .

طوسون معتمد : في دور ( عسكري السجن ) .

عباس الدالي : في دور ( عبد ربه السجان ) .

سيد عبد الله : في دور ( إستعلامات الجريدة ) .

سميحة محمد : في دور ( جارة نور ) .

صالح العويل : في دور ( عامل محطة البنزين ) .

إكرام عزو : في دور ( الطفلة سناء ) .

لطفي الحكيم : في دور ( الساكن الجديد ) .

عباس رحمي : في دور ( صديق رؤوف ) .

فتحية علي : في دور ( طاهرة الغجرية ) .

نصر سيف : في دور ( الزبون السكير ) .

بالإضافة إلى مشاركة : ” سعد منيب ” ، و ” عبد البديع العربي ” .

 

شخصيات القصة الرئيسة :

سعيد مهران : لص شبه مثقف يدخل السجن وحين يخرج من السجن تبدأ مأساته فيجد أن زوجته التي طلقته وهو في سجنه قد خانته ، وتزوجت من صديق له في عصابته … ويجد أن إبنته الصغيرة ” سناء ” تنكره ، حيث إنها لم ترى أباها أبداً .

رؤوف علوان : صحفي كان على علاقة صداقة قديمة مع ” سعيد مهران ” قبل أن يدخل السجن وفي أثناء دخول ” سعيد مهران ” السجن تحدث تطورات لشخصية ” رؤوف علوان ” الذي يصبح كاتباً صحفياً مرموقاً بعد ذلك في إحدى الصحف .

نور : مومس على علاقة بـ ” سعيد مهران ” وتقدم له عدة مساعدات ، وبعد خروج ” سعيد مهران ” من السجن وبعد سلسلة من الجرائم قام بإرتكابها تقوم بإيوائه في بيتها لتجنب مطاردة الشرطة له .

 

 

ملخص قصة الفيلم :

تدور أحداث القصة حول البطل الرئيسي للرواية ” سعيد مهران ” الذي يدخل السجن بفعل وشاية يقوم بها رجل إسمه ” عليش ” الذي بدوره يقوم بالزواج من زوجة ” سعيد مهران ” بعد تطليقها منه .

 

يخرج ” سعيد مهران ” من السجن فيجد العالم قد تغير والقناعات قد تبدلت … ويفاجأ أيضاً بتنكر إبنته الصغيرة له لأنها لا تعرفه ثم يلجأ إلى صديقه الصحفي القديم ” رؤوف علوان ” الذي بدل جميع ولاءاته وشعاراته فلم يظفر بغير النفور والأعراض وتأليب رجال الأمن عليه فيصطدم بهذا الواقع الأليم ثم يتوجه كحل أخير للشيخ الجندي في صومعته ملتمساً أن ينشله من هذا المستنقع ولكن يفشل أيضاً في الوصول إلى حل فيقرر الإنتقام من الخونة وأن يسترد سنوات عمره الضائع منه … لقد كانت أزمة البطل منذ البداية ، نابعة من تنكر الإبنة وخيانة الزوجة وغدر الصديق … سناء ونبوية وعليش ، هم صناع هذه التركيبة النفسية المأزومة لبطل القصة … وتبدأ رحلة الإنتقام عند ” سعيد مهران ” بعد ذلك .

عندما خذله الشرفاء أنصفه غير الشرفاء ، أنصفته ” نور ” ( بائعة الهوى ) عندما إتخذ من بيتها وقلبها مأوى له … ومع ذلك فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء تذوق مرارة الأزمة : خانته الزوجة ووفت له البغى … أي مفارقة يعدها له القدر ؟! … وعندما إهتز قلبه لأول مرة بعاطفة حقيقية نحو إنسانة وكانت هذه الإنسانة هي ” نور ” … !

 

في عملية المطاردة تبين أن القدر نفسه يقف في سخرية مريرة إلى جانب الكلاب … فحين يتسلل ” سعيد مهران ” ليلاً ليغتال صاحبه اللص الخائن ” عليش ” تفتك رصاصاته بمجهول بريء إستأجر شقته من بعده ، وحين تسلل ” سعيد مهران ” ليلاً ليغتال المصلح الإجتماعي الداعي ” رؤوف علوان ” تفتك رصاصاته بالبواب المسكين البريء … وهكذا يفر ” سعيد مهران ” وقد خابت كل آماله في تطهير الدنيا من الكلاب … ويبدأ بحث من نوع جديد ، بحث المجتمع لهذا السفاح الجديد ، فالشرطة وراءه لا تهدأ لأن هذا واجبها والرأي العام وراءه لا يهدأ لأن الصحافة تستثيره .

 

ملخص الأحداث في الرواية :

( سعيد مهران ) الخارج لتوه من السجن بعد قضاء أربعة أعوام بسبب إرتكاب سرقة ، كانت زوجته ( نبوية ) قد تركته لتتزوج صديقه وتابعه السابق ( عليش سدرة ) … يتوجه ” سعيد مهران ” إلى بيت ” عليش ” ليطلب رؤية إبنته الطفلة ( سناء ) التي أنكرته وكذلك تنكر له الزوجان … فأخذ بعض الكتب وخرج من البيت وقد صمم على قتل الإثنين .

 

يلجأ ” سعيد مهران ” إلى بيت أحد المتصوفين ( الشيخ الجنيدي ) والذي كان ” سعيد مهران ” يزوره وهو صغير بصحبة أبيه ، ويحدثه الشيخ عن أيام السجن والأيام التي خلت قبله ، ويحاول الشيخ أن يسمعه بعض النصائح .

 

ثم يعرج على رجل عرفه في السابق أيام كان أبوه وأمه يخدمان في بيت الطلبة ، حيث كان هذا الرجل ( رؤوف علوان ) يدرس الحقوق في الجامعة وكان يعطف على ” سعيد ” ، وقد خلصه مرة من ورطة سرقة لأحد الطلبة … يجد ” سعيد ” أن ” رؤوف ” قد تغير بحكم منصبه كرئيس تحرير جريدة الزهراء ويخرج من عنده حاقداً بعد أن أعطاه رؤوف عشرة جنيهات … زادت هذه الزيارة من غضب ” سعيد مهران ” على الناس .

 

يقرر في نفسه أن يسرق قصر ” رؤوف علوان ” الفخم لكنه يفشل ويقبض عليه ، ويكتفي ” رؤوف ” بشتم ” سعيد ” وإسترجاع النقود التي أعطاه إياها … يتجه بعد ذلك إلى المقهى الذي كان يضمه في السابق مع شلة كان يعيش وسطها … ويدور حوار بينه وبين ( المعلم طرزان ) صاحب المقهى وبعض الزبائن … يطلب ” سعيد مهران ” من المعلم أن يزوده بمسدس فيحقق له المعلم طلبه … وفي هذه الزيارة ، يلمح ( نور ) إبنة الهوى التي كانت وما تزال تتردد على المقهى ، والتي كانت عرفت ” سعيد مهران ” وكانت من قبل تطمع في وصاله .

 

يتجه ” سعيد مهران ” إلى منزل ” عليش ” ليقتله لكن الرصاصة تقتل ( شعبان حسين ) الذي حل محل عليش وشريكته الذان هربا قبل ذلك … تنتابه موجة من الحيرة والغضب والخوف والخيبة عندما ظن أن أحداً ربما رآه وهو يركض هارباً بعد الجريمة ، أو أن الوقائع ستثبت أنه هو الوحيد الذي قام بالعمل دون غيره بقصد الإنتقام … ويترك بيت الشيخ بعد قليل من الكلمات يتبادلها ” سعيد مهران ” معه ، ثم يتجه إلى مأواه بيت ” نور ” عند المقبرة … وهنا يجد القارئ مفارقة في إنتقال ” سعيد ” من بيت الشيخ الصوفي إلى بيت ” نور ” البغي … ويطرق الباب ويدخل ثم تقول له عندما أرادت أن تؤويه في بيتها : ” أحطك في عيني وأكحل عليك ” .

 

يفكر ” سعيد مهران ” في قتل ” نبوية ” و ” عليش ” … ويناجي نفسه ويقول مادام يرى نفسه ميتاً بعد قتله الرجل البرئ بالرصاصة العمياء ، فلا بأس من أن يطلق مزيداً من الرصاص ، لذا يوصي ” سعيد مهران ” ” نور ” أن تحضر له الجرائد بعد عودتها من العمل ، ويجلس في الغرفة وحيداً … وعندها تنهال عليه سيول الذكريات ، فيسترجع أيام تعرفه على ” نبوية ” وإعجابه بها يوم كانت تعمل خادمة عند إحدى السيدات التركيات … وكذلك يتذكر يوم زفافه إلى ” نبوية ” ، وكيف تظاهر ” عليش ” يومها بأنه صديق مخلص له … ويحتار في أمر ” نبوية ” كيف تميل إلى الكلب ” عليش ” وتترك الأسد -هو- مما يحرضه على الإستمرار في التفكير في قتل الأثنين .

 

وتعود ” نور ” محملة بالأكل والمشروبات والجريدة ، فيفاجأ ” سعيد مهران ” بأن صديقه القديم ” رؤوف علوان ” رئيس تحرير جريدة الزهراء قد أسهب في وصف جريمة ” سعيد ” ، وتحدث عن تاريخه في اللصوصية والإجرام وعن جنونه وجرأته الإجرامية ، مما زاد في حقد ” سعيد ” وتصميمه على قتل ” رؤوف ” .

 

ويدور حوار بين ” سعيد ” و ” نور ” يتخلّله نوع من الغزل ، ويطلب منها إحضار قماش ليفصل منه بدلة ضابط بوليس فهو قد تعلم الخياطة في السجن … إرتدى ” سعيد ” بدلة ضابط البوليس برتبة صاغ ، وإستأجر قارباً قاصداً قصر ” رؤوف علوان ” ومصمماً على قتله … وقد رصد ” سعيد ” عودة ” رؤوف ” وما أن نزل الأخير من السيارة حتى ناداه سعيد : ” أنا سعيد خذ ! ” وأطلق عليه النار … ولكن تبادل حراس القصر النار مع ” سعيد ” قد أربكه ، ولم يستطيع التصويب بدقة ، وإنتهى الموقف في ثوان … وإتجه إلى القارب وأخذ يجذف هارباً ثم ركب تاكسي … وتحسس ساقه وعندما عاد إلى بيت ” نور ” وخلع ملابسه إكتشف أنه سار ساعة والرصاصة في ساقه … ويذهل ” سعيد ” وهو يجد في عناوين الصحف التي أحضرتها ” نور ” بأنه قتل للمرة الثانية رجلاً لا ذنب له ، هو حارس قصر ” رؤوف علوان ” وليس ” رؤوف علوان ” نفسه … فينكفئ على نفسه يلومها … وتخيل أنه يقف وسط قفص الإتهام في المحكمة ، وأنه يدلي بدفاعه وإفادته ، ويتراءى له أنه ليس هو القاتل ، بل أن زوجته وعليش ورؤوف هم القاتلون ، ويصر على أن ينتقم منهم في أحد الأيام .

 

ولما لم تعد ” نور ” في مساء أحد الأيام ، وعندما طرقت صاحبة الشقة الباب تطلب إيجار الشقة ، يهرب ” سعيد مهران ” لاجئاً إلى بيت الشيخ الجنيدي … لكن حواره مع الشيخ أشعره باليأس … ومن ثم خرج ليواجه مصير قبض رجال الشرطة عليه بعد معركة غير متكافئة .

 

فيلم « اللص والكلاب » يدين العدالة

 

فيلم اللص والكلاب … هو المحاكمة الأولى لثورة يوليو 1952 م

 

حكاية أولى : في إحدى مغارات حلوان كان يختبئ من سمته الصحافة المصرية آنذاك بالسفاح ، لص وقاتل يسمى « محمود أمين سليمان » كان حديث الصحف كلها نهاية الخمسينات ومطلع الستينات ، حولته المخيلة الشعبية إلى بطل وتابعت أخباره بشغف حتى نهايته المريرة .

 

ساعة ونصف الساعة هي زمن حصار الشرطة للمغارة التي يختبئ بها السفاح والذي كان يهدد خلالها بإطلاق الرصاص على نفسه إذا لم تستجب الشرطة لما يطلبه ، طلب خلال زمن حصاره أن تحضر له الشرطة ورقاً أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته ، ثم طلب أن يحضروا له « محمد حسنين هيكل » رئيس تحرير الأهرام وقتها والذي كان بصحبة « الرئيس جمال عبد الناصر » في جولته الآسيوية … إنتهى الحصار بتبادل إطلاق النار بين الطرفين ، حين أدرك « محمود أمين سليمان » إنها النهاية ، أطلق على نفسه آخر رصاصة بمسدسه ليكتب بيده نهاية حكايتة المثيرة .

 

حكاية ثانية : كان « نجيب محفوظ » قد توقف لسنوات عن كتابة الرواية بعد قيام ثورة يوليو 1952 م ظناً منه أن الثورة قادرة على مداواة العلل التي ألمت بالمجتمع المصري وجسدتها رواياته الواقعية … عام 1959 يعود عراب الواقعية برواية رمزية هي « أولاد حارتنا » تشعل الرأي العام وتثير جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والصحفية بعد نشرها مسلسلة في الأهرام .

 

كانت رواية « نجيب محفوظ » تحمل نقداً سياسياً مبطناً بعد أن لمح التناقض بين مبادئ الثورة وما يتحقق على أرض الواقع ، بدا له آنذاك أن الثورة تسير في طريق آخر غير الذي بشرت به . لم يلتفت أحد لهذا البعد السياسي في روايته في خضم الجدل الديني الذي أثارته الرواية … لم يتابع ” نجيب محفوظ ” بشغف الجدل الدائر حول روايته ، لأن عقله كان مشغولاً بحكاية أخرى ، حكاية اللص الذي حولته المخيلة الشعبية إلى بطل أسطوري .

 

يسأله ” يحيى حقي ” في تلك الفترة عن قراءاته وعما يشغله ؟ فيجيبه نجيب محفوظ : لا شغل ولا تفكير إلا في « محمود أمين سليمان » ، والذي سيتحول على يد ” نجيب محفوظ ” في روايته « اللص والكلاب » التي صدرت بعد شهور من مقتله إلى « سعيد مهران » … في عام 1962 وبعد عام تقريباً من صدور الرواية يجسد للشاشة الكبيرة « شكري سرحان » في كلاسيكية « كمال الشيخ » التي تحمل عنوان الرواية نفسها شخصية السفاح « محمود أمين سليمان » أو نسخته الروائية كما رآها ” نجيب محفوظ ” … الفيلم والرواية في نظر الكثير من النقاد يمثلان المحاكمة الأولى للثورة أو لدولة يوليو في أوج مجدها .

 

حكايات مثيرة عديدة تكمن وراء « سعيد مهران » ، يختلط فيها الخاص والعام ، والواقع بالخيال الفني ، وهو ما يتضح في رسم الملامح العامة لواحدة من أكثر الشخصيات أيقونية في تراثنا الأدبي والسينمائي .

 

 

رصاصات « سعيد مهران » ضد دولة يوليو 1952 م

 

كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد ، كنت على قناعة بأن حياتنا في ظل النظام البوليسي الذي يحكمنا في تلك المرحلة بلا معنى .

— « نجيب محفوظ » في حوار مع مجلة « باريس ريفيو » .

 

في الحوار السابق يصف ” نجيب محفوظ ” حالته النفسية أثناء كتابته لرواية « اللص والكلاب » … يسقط محفوظ كل قلقه وهواجسه على شخصية بطله « سعيد مهران » … كان نجيب قد بدأ يسائل الثورة مستبصراً مصيرها إذا إستمرت في نفس الطريق الذي تسلكه الآن … يتأمل المسافة الشاسعة بين المبادئ الثورية وما يحدث فعلياً على أرض الواقع … تراجيدياً ” سعيد مهران ” هي تشكيك في شرعية دولة يوليو ، هي صرخة إحتجاجه الأولى .

 

يعود فيلم « كمال الشيخ » إلى بداية الحكاية ، خيانة الزوجة والتابع لسعيد مهران ، عكس الرواية التي تبدأ لحظة خروجه من السجن … يستطيع النص الفيلمي الذي أعده « كمال الشيخ » مع رفقة « صبري عزت » أن يؤسس لفكرة الخيانة التي تعرض لها « سعيد مهران » على مستوى أوسع عبر مشهدين :

 

أولهما ؛ بعد سجن « سعيد مهران » يلتقي ” عليش ” و ” نبوية ” معاً ، تعبر له ” نبوية ” عن قلقها على مصيرهما بعد ما فعلاه بسعيد فيجيبها عليش : دا القانون والقانون نغمة بياتي يا نبوية … ثم يسكران معاً في صحة القانون … هنا الخونة الحقيقيون ينامون في أحضان القانون ، بينما ” سعيد مهران ” ينام خلف القضبان .

 

المشهد الثاني ، في مكتبة السجن حيث يطالع « سعيد مهران » مقالاً لأستاذه « رؤوف علوان / كمال الشناوي » عن التفرقة العنصرية في أمريكا … هنا لمحة أولى عن خيانة الثوري القديم الذي لقن ” سعيد ” مبادئه عن العدل والمساواة ، لم يعد يكتب عن علل الوطن ، وكأن كل أفكاره قد تحققت في الواقع … بينما يتحدث عن علل وطن آخر .

 

هذه الخيانة ستتضح أكثر لسعيد بعد خروجه من السجن ، حيث سيكون وقعها على ” سعيد ” أشد من خيانة زوجته وصبيه … فالعلاقة بينهما أشبه بعلاقة الخالق بصنيعته يوجزها ” نجيب محفوظ ” في روايته بقول ” سعيد ” حين يكتشف خيانة أستاذه : « تخلقني ثم ترتد » ، بينما يصور النص الفيلمي لقاءهما كنقطة فاصلة في حياة « سعيد مهران » ، بداية طريق سيسلكه وحده حتى النهاية .

 

في المشهد الذي يلي لقاء ” سعيد مهران ” بـ ” رؤوف علوان ” في بيت الطلبة ، يصور « كمال الشيخ » ” سعيد ” وهو يسير بجوار شريط قطار وحيداً عكس حركة القطار ، وعكس حركة الناس .

 

يدخل النص الفيلمي مرحلة ثانية بعد خروج ” سعيد مهران ” من السجن في أعياد الثورة ، مرحلة تؤسس لتصور عن وطن يشبه سجناً كبيراً ، وعن واقع عبثي تصبح حياة الأبرياء فيه بلا ثمن … منذ لحظة خروجه من السجن يصوره « كمال الشيخ » محاصراً بقضبان حقيقية أو بما يشبه القضبان … يصوره في الأغلب على طرف الكادر أو في مكان هامشي داخل التكوين محاصراً بالأجساد التي تشاركه التكوين .

 

في مشهد عودته للحارة بعد خروجه من السجن ليرى إبنته ، نجده محاصراً دائماً داخل التكوين برجال الحارة الموالين لعليش ، وكذلك المخبر / ممثل السلطة والذي نراه أيضاً يأخذ جانب صبيه الخائن ” عليش ” … تماماً مثلما يقول لـ « نور / شادية » : « كان عليا سجان ، دلوقتي بقوا ألف سجان » .

 

بينما يتجسد العبث في الضحايا الأبرياء الذين يسقطون برصاصات ” سعيد مهران ” الذي يتقمص الآن دور المخلص ، يبحث بعزم نبي عن خلاص العالم محاولاً إجتثاث الشر من جذوره ، بينما الخونة لا يمسهم السوء من قريب أو بعيد … يقول المعلم « طرزان / صلاح جاهين » بعد سقوط أحد الأبرياء برصاص سعيد الطائش : دنيا لها العجب ، خردواتي لا له في الطور ولا في الطحين يموت عشان نبوية إتجوزت عليش .

 

 

البحث عن خلاص / البحث عن معنى :

قرب نهاية الفيلم يجسد « كمال الشيخ » مأساة « سعيد مهران » في لقطة واحدة أيقونية … يخرج ” سعيد مهران ” من خلوة الشيخ هارباً مطارداً من الشرطة ، ويتجه نحو منطقة صحراوية وعرة لا تحوي غير الخرائب … يسقط ” سعيد ” لاهثاً في مقدمة الكادر منكس الرأس وفي الخلفية مئذنتان مهدمتان … هنا إنتهت رحلة بحثه عن المعنى .

 

أزمة « سعيد مهران » هي أزمة البحث عن معنى لحياته بعد أن سقطت كل المرجعيات التي شيدت معنى حياته من قبل … العائلة : تخونه الزوجة وتنكره إبنته … خلوة الشيخ التي كانت جنة طفولته لم تعد كسابق عهدها ، وكلمات الشيخ صارت بلا معنى … في المشاهد التي تجمع الشيخ مع « سعيد مهران » هناك مسافة دائماً تفصل بينهما أو يتم تصويرهما في كادرات منفصلة كدليل على أنه لا توجد نقطة إلتقاء بينهما ، كما يأتي صوت الشيخ بأداء « فاخر فاخر » محايد وبارد لا يمكن أن يعيه من يحترق داخله بنار الغضب .

 

أما « روؤف علوان » الذي خلقه خلقاً يرتد عنه ، وحتى ” نور ” لم يدرك محبتها في قلبه إلا متأخراً جداً بعد أن إنطلقت الرصاصة وسكنت القلب … يمكننا أن نتأمل دلالة المكان في مسكن ” نور ” الذي تطل نافذته على مشهد المقابر والذي يعطي مجالاً لسعيد مهران ليطرح بعضاً من تأملاته الفلسفية التي تتعلق بالحياة والموت مثلما يضيء أيضاً شخصية ” نور ” ، فنور هي محبة صافية لا تعكرها الأيام ولا تغيرها الخطوب .

 

ضوء يختلج على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت لا يبصره المرء إلا قرب نهايته في المسافة بين سقوطه وهاويته ، تشعل الحنين في قلبه الفارغ إلى حياته التي توشك أن تنطفئ .

 

هذه اللقطة التي إفتتحنا بها هذه الفقرة هي مجاز رحلته ، رحلة البحث عن معنى في قلب واقع عبثي ، رحلة الرصاصات الطائشة ، رحلة إفلات الخونة وسقوط الأبرياء … لا شيء إذن في صحراء السؤال غير يقين العطش .

 

 

لقطات أشبه بطلقات رصاص :

 

الفن كما أراه هو ضبط الإنفعال لا إطلاقه

  • المخرج « كمال الشيخ »

 

بعد سقوط « سعيد مهران » مضرجاً برصاص الشرطة يختم « كمال الشيخ » فيلمه بتتابع من اللقطات الصامتة بليغة المعنى ، مع قطعات مونتاجية سريعة : لقطة مقربة لوجه ” سعيد ” المدمي مع مسدسه – لقطة كاميرات الصحفيين مصوبة نحو المشاهد – وجه « نور/ شادية » المفجوع – كاميرا تتابع جثمان سعيد إلى عربة الإسعاف – عودة لوجه نور تحت هول الصدمة – رؤوف علوان والشرطي يتبادلان إشعال السجائر – يعود رؤوف إلى سيارته – لقطة عامة للجموع تخلي المكان كاشفة في عمق الكادر عن نور – لقطة متوسطة لنور وهي لا تزال تحت تعبير الصدمة – لقطة عامة لنور وحيدة في هذا المكان الخرب والمهجور .

 

تتابع اللقطات الذي ينهي به ” كمال الشيخ ” فيلمه من أجمل تتابعات النهاية في السينما المصرية وأكثرها إتقانًا … لقطات سريعة وصامتة تغزل معاً روح المأساة في أجلى معانيها … ” سعيد مهران ” هو نزيف أسئلة بلا إجابة ، إبن الحلم الذي إختتم به ” نجيب محفوظ ” روايته « أولاد حارتنا » : « وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا لابد للظلم من أخر ولليل من نهار ، ولترين حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب » … لكنه فيما يبدو حلماً مستحيلاً .

 

 

فيلم ” اللص والكلاب ” لـ ” نجيب محفوظ ” بين الحكاية والرواية والفيلم :-

يستقصي نص اللص والكلاب بدءاً من الحكاية التي تأثر بها ” نجيب محفوظ ” التي نشرتها الصحف مطلع الستينات عن سفاح الإسكندرية ، مروراً بنشرها في رواية ، وصولاً إلى إستلهامها في فيلم سينمائي ثم في مسلسل .

 

و في دراسة للقصة ومع ضع فرضية أساسية بأنه ليس للإنسان وجود خارج الحكاية ، فهو يستوعب ذاته ضمن حكاية أبدية كبرى تبدو لا نهائية ، ويحاول البحث أن يستوعب الحكاية في تجلياتها المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة ، كيف تشتغل وما هي مكوناتها الرئيسية ؟ كيف تصاغ وتتطور ؟

 

في نص حادثة سفاح الإسكندرية ” محمود أمين سليمان ” ، الذي نشرته الصحف في شهري مارس وأبريل عام 1960 م نتعرف إلى سفاح عمل في مهن كثيرة ، وكان بارعاً في التنكر ، وقادراً على المراوغة والهروب بين مدن كثيرة كالقاهرة والجيزة والإسكندرية … ومن تلك الشخصية الثرية والمثيرة إستلهم ” نجيب محفوظ ” شخصية ” سعيد مهران ” في اللص والكلاب التي صدرت عام 1961 .

 

وإذا كانت أسطورة السفاح بدأت عقب هروبه من السجن ، فإن أسطورة ” سعيد مهران ” بدأت عقب خروجه من السجن ، وكثف ” نجيب محفوظ ” أحداث الرواية في حدود أسبوعين بدلاً من شهرين ، كما إختزل أماكنها الموزعة على عدة محافظات ، مكتفياً بالقاهرة الكبرى ، وبدلاً من التركيز على حي محرم بك بإعتباره مركز الأحداث ، أدخل ” نجيب محفوظ ” ” سعيد مهران ” عالمه الأثير وتحديداً أحياء القاهرة القديمة حول القلعة .

 

ومن بين نحو 90 مكاناً ورد ذكرها في الحكاية الصحافية ، إختزل ” نجيب محفوظ ” خريطة اللص في نحو 20 مكاناً ، وبينما حفلت الحكاية الصحافية بأكثر من 150 شخصية ، نصفها من رجال الشرطة والنيابة والقضاء ، فإن الرواية قلصت العدد إلى نحو 40 شخصية ، لكن الملاحظة الأساسية أن معظم الشخصيات في الحكايتين كانت معارضة لسعيد مهران ومهددة لوجوده .

 

بعد عام من نشر الرواية ، قدم ” كمال الشيخ ” فيلمه اللص والكلاب ، الفيلم مدته 125 دقيقة ، وتضمن أكثر من مئة مشهد ، تعرض لنحو 50 شخصية ، وإجمالاً إلتزم الفيلم بمعظم شخصيات الرواية ، لكنه قلص حضور الشيخ الجنيدي في مشهدين فقط ، وجعل بياظة صاحب مقهى وليس أحد أتباع عليش ، وإختلق بعض الشخصيات مثل السجين مهدي .

 

وإذا كانت الحكاية الصحافية بدأت من لحظة الهروب من السجن والرواية بدأت من لحظة الخروج منه ، فان الفيلم بدأ من فعل الخيانة ثم دخول السجن ، وتمتد الأحداث لتغطي خمس سنوات تقريباً ، وكلها تقع أو على الأقل توهمنا بأنها تقع في حي القلعة والأماكن المحيطة به .

 

وأخيراً في العام 1998 قدم المخرج ” أحمد خضر ” مسلسل اللص والكلاب ، ويقع في 17 حلقة ، متوسط الحلقة 41 دقيقة ، ويشمل نحو 500 مشهد سيناريو وحوار ” أبو العلا السلاموني ” .

 

وإذا كانت الحكايات الثلاث السابقة قد بدأت من لحظة دخول السجن أو الخروج منه أو الهروب ، فان الحكاية التلفزيونية إبتعدت تماماً عن تلك اللحظة ، وبدأت من مرحلة عمل ” سعيد مهران ” في بيت الطلبة خلفاً لوالده ، وبذلك فإن زمن الحكاية التلفزيونية جاء مشوشاً ، فقياساً على عمر ” سعيد مهران ” إستغرق ما يزيد على عشر سنوات ، وقياساً على الأحداث السياسية والإجتماعية في المسلسل مثل مظاهرات الطلبة المطالبة بالحرب عام 1972 وحرب أكتوبر وصعود التيار الإسلامي وشركات توظيف الأموال والتحذير من الإرهاب ، يغطي المسلسل نحو ربع قرن من الزمان وليس أسبوعين فقط ، كما في الرواية .

 

وعلى عكس الرواية والفيلم اللذين كثفا عدد الشخصيات ، فإن المسلسل جاء مشابها للحكاية الصحافية في ضخ عشرات الشخصيات الثانوية في مجرى الحكاية .

 

تكشف قراءة الحكايات الأربع عن عدم تطابقها على مستوى بنائها وشخصياتها وأزمنتها وأماكنها ورؤيتها لشخصية البطل ، فالحكاية ، إذاً ، مفتوحة على إحتمالات كثيرة في إنتاجها ، وكذلك في تلقيها ، وخير مثال على ذلك تباين قراءات النقاد للرواية ، فهناك من صنفها بإعتبارها رواية قصيرة ” أنور المعداوي ” ، أو قصة قصيرة طويلة ” يحيي حقي ” أو قصة متوسطة الحجم ” ماهر فريد شفيق ” ، وبالنسبة إلى الإتجاه الفكري والجمالي ، فإن البعض إعتبرها قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون ” لويس عوض ” ، فيما نسبها آخرون إلى الإتجاه الوجودي ، فأزمة ” سعيد مهران ” وجودية من وجهة نظر ” أنور المعداوي ” ، و ” غالي شكري ” و ” إبراهيم فتحي ” .

 

نخلص من ذلك … إلى أن الحكاية تبقى مفتوحة إلى الأبد إنتاجاً وتأويلاً وإعادة إنتاج ، كما تبقى متشابكة مع تاريخ لا نهائي من الحكايات ، وتلك المساهمة البسيطة هي محاولة لإدراك عملية بناء النص الروائي لدى ” نجيب محفوظ ” وتحولاته ، وتعميق الوعي به إنطلاقاً من مقولة بسيطة جداً مفادها : لا أحد ينزل نهر الحكاية مرتين .

 

ويشار أن الفكرة لا تتغير لأنها أساس الموضوع ، ولو لاحظنا الفوارق بين العمل الأدبي والسينمائي سنجد عامةً مراعاة الإلتزام بالفكرة الأساسية للموضوع والجو العام للحدث … لكن الفرق الأساسي بين الرواية والفيلم تكون في عامل الوقت ، ففي الرواية تكون غير محددة الوقت ، أما في الفيلم فيكون محدد الوقت ، كما نلاحظ فرق اللغة وهي الأسلوب المتبع في سرد وعرض الرواية .

إرسال التعليق