إسرائيل هي المتهم الأول بالجريمة في مناطق 48 الشرطة الإسرائيلية، مثل الدولة الصهيونية، ليست لكل المواطنين وعقيدتها هي حماية المجتمع اليهودي في إسرائيل، وليس ضمن أولوياتها الأمن الشخصي للمواطن العربي
د. جمال زحالقة
ساد الثلاثاء الماضي، الإضراب العام التجمعات السكنية العربية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، احتجاجا على عدم قيام الشرطة بمحاربة الارتفاع الخطير في حوادث القتل على خلفية جنائية، التي وصلت إلى أكثر من ضعفين، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، والتي هي مرشّحة للارتفاع أكثر وفق كل التوقّعات. وعلى الرغم من خطورة الوضع، إلّا أن الشرطة الإسرائيلية لا تحرّك ساكنا لوضع حد لاستفحال الجريمة والعنف. وقد كان السبب المباشر لإعلان الإضراب هو سلسلة من أعمال القتل الفظيعة، التي عصفت بمدن وقرى الجليل والمثلث والنقب والساحل الفلسطيني، والشعور العام بأن الدولة الصهيونية لن تحرّك ساكنا، بمحض إرادتها إن لم يحدث تصعيد جدّي في النضال والمواجهة لفرض معادلة تجبرها على الفعل.
وفي اجتماعها مطلع الأسبوع الحالي، أعلنت لجنة المتابعة العليا، التي هي مظلة كل الأحزاب والسلطات المحلية في الداخل الفلسطيني، عن تشكيل لجنة طوارئ لمتابعة الموضوع، وقررت القيام بتصعيد متدرّج، بدأ بالإضراب العام وتتبعه خطوات وصولا إلى القيام بعصيان مدني، للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتفعيل الشرطة ضد الإجرام والمجرمين، وهو ما لا تقوم به حاليا، فهي تتحرك بخطى متثاقلة وكسولة وغير مبالية بمصير المواطنين العرب الفلسطينيين، الذين يحملون رسميا الجنسية الإسرائيلية.
معطيات مذهلة
منذ مطلع العام الحالي، وصل عدد القتلى على خلفية جنائية في المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر إلى 165 قتيلا، أي بمعدل 20 قتيلا في الشهر، ويتوقّع أن يرتفع العدد إلى ما يقارب 250 قتيلا حتى نهاية السنة. وهذه أرقام عالية جدّا في مجتمع صغير نسبيا، يصل عدده إلى مليون وخمسة وستين ألف نسمة. ومن المتّبع في الإحصائيات الدولية حساب عدد القتلى لكل 100 ألف، وعليه فإن النسبة تقارب الـ15، وهي من أعلى النسب في العالم، ووفق معطيات الأمم المتحدة، لا تفوقها سوى معدّلات القتل الجنائي في أمريكا اللاتينية، التي تصل إلى 20 من كل مئة ألف. وللمقارنة فإن النسبة العالمية الكلية هي 6 قتلى في العام لكل مئة ألف، وهي 2.5 في أوروبا و6 في الولايات المتحدة و2.3 في مجمل آسيا. والمقارنة القريبة هي مع مناطق السلطة الفلسطينية، التي تصل نسبة القتلى سنويا فيها إلى 1 من كل 100 ألف والأردن كذلك الأمر 1. ما يعني أن المجتمع الفلسطيني في الداخل، الذي هو المجتمع نفسه والأعراف والتقاليد والعادات والمعتقدات نفسها، تصل معدلات القتل فيه إلى ما لا يقل عن عشرة أضعاف مقارنة بالمجتمع نفسه في الضفة وغزة والأردن. هذا ينسف تماما الادعاء الإسرائيلي المركزي والعنصري بأن ما يحدث هو نتاج لثقافة مجتمعية عنيفة. فلماذا إذن هذا الفرق الشاسع في معدّلات الجريمة وأعمال العنف بين أبناء الشعب والمجتمع نفسه؟ لا بدّ من أن يكون ذلك مرتبطا بسياسات وممارسات الدولة الصهيونية تجاه «مواطنيها» العرب الفلسطينيين.
تدل الاحصائيات الخاصة بالسنوات الخمس الماضية 2018-2022، أن عدد القتلى في الاحداث الجنائية في إسرائيل عموما وصل إلى 731 قتيلا، منهم 70% عربا وما يعادل 24% يهودا، والباقي من «الآخرين». وأخذا بعين الاعتبار عدد ونسبة السكّان، نجد أن معدّلات القتلى في السنوات الخمس الماضية كانت عند اليهود هي 0.5 من كل مئة ألف سنويا، مقارنة بنسبة تصل إلى 6.4 عند العرب أي حوالي 13 ضعفا، وهذا الفارق مرشّح للارتفاع تبعا للازدياد الدراماتيكي في عدد القتلى العرب. الذي قد يصل، كما أسلفنا، إلى نسبة 15 قتيلا من كل مئة ألف، مع نهاية العام الحالي.
أسباب الجريمة
تلقي الإحصائيات الضوء على جذر المشكلة. فمعدلات الجريمة في إسرائيل وفي مناطق السلطة الفلسطينية متقاربة، وتبقى المعدلات عالية جدّا عند فلسطينيي الداخل. وبناء عليه فإن السبب المركزي لهذا الانفلات في الجريمة يعود إلى النظام الإسرائيلي، الذي له خصائص الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني، وكلاهما في أنحاء العالم كافة، دفعا السكّان الأصليين إلى دوائر الجريمة والعنف، إمّا بالتخطيط المباشر أو بالإهمال المقصود. وهناك عدد كبير من الأبحاث تثبت العلاقة المباشرة بين العنف المجتمعي ونظام الأبرتهايد وأنظمة الاستعمار الاستيطاني. النظام الإسرائيلي تحديدا، يقصي ويهمّش ويضطهد ويقمع ويحاصر ويصادر ويبطش ويميّز، وفي البداية والنهاية يدفع قسما من ضحاياه إلى دوائر العنف والجريمة، التي تحاصر أبناء المجتمع كافة، ثم يتركهم يغرقون فيها وبعدها يلقي التهم عليهم بأن الجريمة هي مكوّن من «ثقافتهم المجتمعية».
هناك قاعدة في المجتمعات الإنسانية عابرة للتاريخ والجغرافيا، وهي أن العقاب على الجرائم يردع المجرمين، وغياب العقاب يشجّعهم على المزيد. ومن المعروف أن الشرطة الإسرائيلية تملك الوسائل والقدرات ولكنّها لم تقرر بعد سحق الجريمة المنظمة في المجتمع الفلسطيني في الداخل. سابقا هي قررت تفكيك الإجرام المنظّم في المجتمع اليهودي ونجحت في ذلك خلال مدّة قصيرة نسبيا. فهي إذن تستطيع لكنّها لا تريد! ولو عقدت النية لحققت الهدف. هي حقّا قوية في كل المجالات سوى في مكافحة الجريمة في المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر. وتبقى إسرائيل الدولة والحكومة والشرطة المتهم الأول في تفشي الجرائم الجنائية في صفوف فلسطينيي 48. الشرطة الإسرائيلية، مثل الدولة الصهيونية، ليست لكل المواطنين وعقيدتها هي حماية المجتمع اليهودي في إسرائيل، وليس ضمن أولوياتها الأمن الشخصي للمواطن العربي. وفي غياب الردع الرسمي تنشأ مناطق «مهجورة أمنيا» ويحدث فراغ يجذب إليه عصابات ومنظمات الإجرام، التي تدير صراعا داميا على النفوذ والسيطرة على سوق الخاوة والمخدرات والسوق السوداء وتبييض الأموال والخدمات مدفوعة الثمن لحل المشاكل بالتهديد وبقوّة السلاح.
مجموعة فرعية
من الخطأ تصوير الوضع وكأنّه انهيار مجتمعي في الداخل الفلسطيني. المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر يتطوّر ويقوى باستمرار بأبنائه وبناته، والمجرمون الأفراد وأعضاء منظمات وعصابات الإجرام هم مجموعة فرعية صغيرة نسبيا، لكن ضررها وتأثيرها وسطوتها أكبر بكثير من حجمها الفعلي. وقد أنشأت هذه المجموعة ثقافة فرعية لها لغتها ورموزها وطرق تواصلها الخاصة، ولها كذلك قوانينها الداخلية وأعرافها. وتقوم منظمات الإجرام باصطياد الشباب، الذين فشل جهاز التعليم في تأهيلهم، وفشل أهلهم في تربيتهم ويبحثون عن الربح السريع والمريح. والطامة الكبرى أن الدخول إلى عالم الجريمة «سهل» لكن الخروج منه صعب جدّا، إمّا لأن منظمات الإجرام لا تسمح لمن يعرف أسرارها بالخروج منها، أو لأن من اعتاد على المال السهل، يصعب عليه الاجتهاد في العمل لكسب لقمة العيش، التي تحتاج إلى عمل أكثر بكثير لجني مبالغ أقل بكثير.
ما العمل؟
لقد هزّت حوادث القتل المتكررة وجدان ومشاعر أبناء وبنات شعبنا في الداخل، وأصبح هذا الموضوع الشغل الشاغل للناس، وطغى على القضايا الأخرى. ويدور نقاش في أوساط النخب الثقافية القيادية، وفي القاعدة الشعبية نقاش حل «ما العمل؟»، تطرح فيه مقترحات كثيرة، بعضها يأتي تعبيرا عن اليأس والإحباط، وبعضها منفصمة عن الواقع، والبعض الآخر يرفض الاستسلام للواقع ويسعى لتحقيق الهدف وهو ضمان الأمان للناس. يجب الانطلاق في الإجابة على سؤال ما العمل؟ من التفاؤل الواقعي بأن المجتمع الفلسطيني في الداخل، الذي استطاع تجاوز التحديات في الماضي، قادر الآن أيضا على تخطّي هذه المصيبة التي ألمّت به، ويلزم هذا محاذير وأفعال كثيرة منها:
أولا: عدم الوقوع في مطب الانصراف إلى التصدي لقضية العنف والجريمة كقضية منفصلة عن الكفاح ضد نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، فهو الذي ينتجها وهي غير منفصلة عنه، ومن المهم ربطها ببقية القضايا مثل الأرض والمسكن والتشغيل والتعليم والفقر والتمييز وحماية الهوية.
ثانيا: يجب العمل بوحدة صف كفاحية، وعلى كل من ابتعد عن الصف الوطني أن يراجع حساباته ويعود إلى هذا الصف للمساهمة فعلا في حماية المجتمع
ثالثا: مواصلة التصعيد النضالي بكل الوسائل المتاحة، فبعد الإضراب العام يأتي دور يوم شل الحركة المرورية في إسرائيل، عبر إغلاق الشوارع وقافلات السيارات البطيئة، وبعدها الشروع في العصيان المدني خطوة بعد خطوة.
رابعا: التوجّه إلى القيادة الأردنية وإلى القيادة الفلسطينية بطلب العمل على وقف تدفّق الأسلحة إلى منظمات الإجرام داخل الخط الأخضر، مع العلم أن هذا جزء مهم من المشكلة، لكن معظم الأسلحة والذخيرة تأتي من مخازن الجيش الإسرائيلي.
خامسا: طرح القضية في الهيئات الدولية المعنية، وقد اتخذت لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل قرارا بهذا الشأن وبدأ الإعداد الجدي لهذا التوجّه.
سادسا: اتخاذ التدابير المجتمعية الممكنة لحقن الدماء وإصلاح ذات البين قدر الإمكان.
سابعا: عدم الوقوع في فخ الأمن الإسرائيلي، الذي يحاول استدراج الناس للعمل معه وفي صفوفه تحت يافطة «مكافحة الجريمة». هذه مناورة مفضوحة لأن الشرطة والأمن في إسرائيل ليسا بحاجة لمتطوّعين عرب لسحق منظمات الإجرام، والهدف الحقيقي هو إلحاق الفلسطينيين في إسرائيل بالمؤسسة الأمنية لإضعاف انتمائهم وهويتهم وتخفيف عدائهم للصهيونية ولممارساتها.
بطبيعة الحال هناك ضرورة للعمل داخل المجتمع للتربية والتثقيف ولحماية الشباب من آفات الجريمة والعنف والمخدرات، ولكن المعركة الآن هي وقف الجرح النازف، وهذا يتطلب معاقبة المجرمين وحبسهم. ومجتمع الداخل لا يستطيع ذلك، لكنّه يستطيع خلق معادلة جديدة، تخسر بموجبها الدولة أكثر مما تربح جراء سياسة «عدم التدخل» وبالتالي تكون مضطرة إلى العمل لسحق الجريمة وعقاب المجرمين.
إرسال التعليق