السابع من أكتوبر والولايات المتحدة وإسرائيل
د. سنية الحسيني
جاء هجوم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس على مستوطنات محيط غزة، في صورة اختراق واسع ومباشر للحدود التي وضعها الاحتلال لفصل غزة عن محيطها الفلسطيني، وهو الهجوم الأول من نوعه في قوته وحدوده، وأعلنت إسرائيل الحرب على غزة، وبدأت بحشد عسكري ضخم على الحدود مع غزة، اعداداً لاجتياح بري. ويتبلور المشهد الميداني باتجاه التصعيد ساعة بعد ساعة، قصف شديد ومدمر لغزة، واستمرار اطلاق الصورايخ من القطاع، وبعض الاشتباكات لمقاتلين فلسطينيين، من هناك وهناك، في منطقة غلاف غزة، واشتباكات متصاعدة على الجبهة الاسرائيلية اللبنانية الشمالية، واحيانا تتصاعد على الجبهة السورية، فإلى أين تتجه الأوضاع في المنطقة، في ظل هذا التصعيد الاسرائيلي، والدعم الأميركي المطلق لإسرائيل لشن حرب واسعة ومدمرة ضد غزة، وحشد الدعم الغربي لذلك.
لو رجعنا قليلاً للحدث وأسبابه ورد الفعل عليه، بعيداً عن الانفعال العاطفي، قد نستوعب ما وصلت اليه الأمور، وذلك بهدف الابتعاد عن السيناريوهات القاتمة، التي ستكون مكلفة للجميع. فبداية وحسب تصريحات مسؤولين دوليين ومحللين اسرائيليين وأميركيين، كان هناك توقع لرد فعل فلسطيني، خصوصاً في ظل تصاعد سياسات الاحتلال التي تستهين بالفلسطينيين وحياة أبنائهم ومقدساتهم وممتلكاتهم التي تفاقمت بشكل غير مسبوق مؤخراً، في ظل انعدام أي أفق لحل سياسي مستقبلي للفلسطينيين. وتعود المشكلة في الأساس لاستهانة الولايات المتحدة والعالم الغربي بحل القضية الفلسطينية، حسب قرارات الشرعية الدولية، ومحاباة إسرائيل في ذلك، والاكتفاء بوضع خطط لاحتواء الفلسطينيين في غزة والضفة، للمماطلة في حل القضية، بهدف التجاوز عن حل القضية الفلسطينية بالتعويل على عامل الزمن، كما تخطط إسرائيل. كما دعمت الدول الغربية تحقيق التوجه الأميركي الإسرائيلي وعملت في تنفيذه على الأرض، بينما جاء موقف الدول العربية بعدم الضغط لحل هذه القضية، في ظل انخراطها بسياساتها الداخلية ومصالحها الاقليمية وتحالفاتها مع الولايات المتحدة.
وتعتقد الولايات المتحدة، التي وضعت نفسها كعدو للفلسطينيين دون مواربة اليوم، أن الترويج لمصطلحات الارهاب الفلسطيني، ووصم أي مقاومة للاحتلال بذلك، وهو حق مشروع، يكفي للتعميم لدول العالم الأخرى. اليوم وبعد هجوم القسام على غلاف غزة، تعتبر دول عربية واقليمية حليفة مقربة من الولايات المتحدة، أن هذا الهجوم جاء رداً على ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين، سواء كان ذلك في غزة التي تخضع لحصار منذ ١٦ عام، أو في الضفة التي تعاني من ممارسات الاحتلال اليومية ضد السكان المدنيين. وتنادي تلك الدول وغيرها من الدول الغربية بضرورة اعطاء الفلسطينيين دولتهم.
قد يكون هدف الولايات المتحدة من ارسالها لحاملة الطائرات العملاقة، والتي لا تحتاجها إسرائيل لتدمير كل غزة إن أرادت، ارسال رسالة لأطراف في الاقليم، لثنيها عن التدخل في هذه الحرب. الا أن محاولات حزب الله أيضاً بالتصعيد المضبوط من لبنان، حتى الان، تريد أن يرسل رسالة واضحة للاحتلال، بعدم الذهاب لتدمير غزة. إن الرد الذي توجهه إسرائيل في هذه اللحظات ضد الابرياء في غزة، والتهديد بالتصعيد الذي تبثه الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، لن يأت بالأمن لاسرائيل وحتى للولايات المتحدة في المنطقة. فقد عانت واشنطن في السنوات الأخيرة من استهداف ميليشيات عسكرية عديدة في بقع مختلفة في المنطقة. ولم تؤد الحرب العنيفة والجبارة التي خاطتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بالخير والأمن لها، ولا للمنطقة. إن سفك المزيد من الدماء في غزة، لن يجني الا مزيداً من العداء لاسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
كما أن التعويل على امتلاك أدوات القوة الخارقة، لا يعد ضمانة أيضا لتحقيق النصر. إن اجتياح غزة، وسفك دماء مواطنيها، سيفتح الباب لسيناريوهات عديدة أصعبها حرب الاقليمية. والحروب الكبرى دائماً مكلفة حتى للطرف الأقوى. أليس هذا ما عولت عليه الولايات المتحدة في أوكرانيا! فلن تكون حرب اقليمية في المنطقة نزهة لأي من الأطراف، وستفتح جبهة صراع جديدة ومعقدة في العالم. وحتى في حالة الاجتياح الإسرائيلي البري لغزة، فطالما قدمت التحليلات الأمنية الإسرائيلية صورة متشائمة لهذا السيناريو، فإسرائيل انسحبت من غزة، في العام ٢٠٠٥، ولم تقدم على اجتياح غزة بشكل كامل مطلقاً، رغم خوضها عدة حروب ضدها، آخذة في الاعتبار، من ضمن اعتبارات أخرى التكلفة البشرية للحرب في صفوف جيشها. وحتى في حالة انفجار معارك داخلية في الأراضي المحتلة ومناطق أخرى، ستكون أيضاً مكلفة لاسرائيل، وتقلق إسرائيل من سيناريو وحدة الساحات بشكل كبير، فالمعارك في العمق الإسرائيلي ستكون شديدة التعقيد لاسرائيل. ولن يحسم استخدام القوة من قبل الاحتلال ضد الفلسطينيين الصراع يوماً في الأراض المحتلة.
على الصعيد السياسي، فإن التقدم باتجاه اجتياح بري لغزة سيكون مكلفاً للولايات المتحدة تماماً كما سيكون مكلفاً لاسرائيل. فالقضية الفلسطينية تحصد اجماعاً شعبياً عربياً صلباً، وكذلك على المستوى الرسمي العربي، لا يمكن حتى لحلفاء الولايات المتحدة الوقوف في وجه طوفان التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين في بلدانهم. يأتي ذلك في ظل صعود قوى قطبية صاعدة في المنطقة، تنافس الولايات المتحدة فيها، وتتطلع لأدوار أكبر مع دولها. وعلى الجانب الإسرائيلي سيصبح حلم التطبيع مع العرب أكثر بعداً. وعلى المستوى الدولي، لن يبقى حتى العالم الغربي متعاطفاً مع إسرائيل، مع استخدام رد فعل للقوة غير متناسب للفعل طويلاً، خصوصاً في ظل التطورات الميدانية في غزة.
كما أن المحاولات الأميركية والإسرائيلية لشيطنة حركة حماس لتبرير غزو غزة والتمثيل بالغزيين لن يكون مفيداً أيضاً، ويذكرنا بمحاولة الولايات المتحدة لشيطنة العراق قبل غزوها، عندما ادعت وجود أسلحة دمار شامل لتبرير ذلك الغزو، ثم عادت بعد أن غزت ودمرت العراق، لتعتذر عن عدم وجود تلك الأسلحة، المبرر المعلن للغزو. فمقاومة الفلسطينيين للاحتلال حق مشروع، وهجمات حركة حماس لا تشبه بأي شكل من الأشكال هجمات ١١ سبتمبر أو هجمات بيرل هاربر، كما تروج إسرائيل وأميركا. كما أن حركة حماس، التي ظهرت في الانتفاضة الفلسطينية في العام ١٩٨٧ جاءت لمقاومة الاحتلال، ليس لها أي علاقة بالجماعات الإرهابية، ومن يتابع الملف الفلسطيني يعلم تماما حدود سياسة هذه الحركة ونشاطها في الأراضي المحتلة. إن جرائم إسرائيل بقصف المدنيين في منازلهم، ومشاهد انتشال جثامين الأطفال في غزة من تحت الانقاض، والتي تتكرر مع كل هجوم إسرائيلي على هذه المدينة الصغيرة، في ظل عالم دولي صامت أمام مجازر إسرائيل، يعيد إلى ذاكرتنا المجازر اليهودية من قتل وحرق واغتصاب وتهجير بحق الفلسطينيين أبان نكبة عام ١٩٤٨، ومجزرة بحر البقر على مدرسة ابتدائية في مصر، ومجزرة قانا لمدنيين احتموا بمبنى تابع للأمم المتحدة في لبنان، وبمجزرة صبرا وشاتيلا، التي يصعب نسيان مشاهدها وغيرها من المشاهد التي تقشعر لها الابدان.
رغم الحصار، استطاعت حركة حماس تطوير قدراتها في غزة، ورغم القمع، تصاعدت المواجهات مع الاحتلال في الضفة، فالقمع والعنف لم يحل في الماضي القضية الفلسطينية ولن يحلها اليوم. إن طرد سكان غزة إلى سيناء، كما تتطلع إسرائيل، ضد الرغبة المصرية، وإعادة احتلال الضفة الغربية على غير الرضا الغربي، لن يحل مشكلة إسرائيل، على العكس، ستبقى قضية الاحتلال واللاجئين قائمة، والنضال من أجل الحرية سيستمر، في ظل عالم متغير، لن تبقى فيه الغلبة لقوى معينة حتى النهاية. وفي النهاية، من يستطيع اليوم ضبط فتيل الانفجار هو الولايات المتحدة، فهل ستنجح الحكمة؟
إرسال التعليق