الشريط القاتل حول غزة وسياسة الأمر الواقع
د. جمال زحالقة
أثار الخبر الذي بثته القناة 11 الإسرائيلية، قبل أيام، حول «تغيير أوامر إطلاق النار» على طول حدود غزة ضجة داخلية كبيرة في إسرائيل، واتهمت الأوساط اليمينية قيادة الجيش بأنّها لم تتعلم الدرس من أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وأعادت الأوامر القديمة التي سمحت برأي هذه الأوساط بمظاهرات الجدار في السنوات الأخيرة. ويعود الغضب الذي أثاره الخبر إلى قناعة واسعة في الدولة الصهيونية بأنه يجب إطلاق النار على كل من يقترب من الجدار المنصوب حول قطاع غزة، في إطار فرض منطقة عازلة بعمق أكثر من ألف متر. وجاء رد الجيش بأن لا تغيير في إجراءات إطلاق النار، وأن الأوامر هي «منع الاقتراب من الجدار، والتوجيهات القائمة تفي بهذا الغرض وهي تمنع حدوث إطلاق قواتنا النار على قواتنا، أو إصابة مواطنين إسرائيليين، بمن فيهم مخطوفون فارّون. قوات الجيش منتشرة على طول الحدود وقد قتلت العشرات من «المخرّبين» في الأسابيع الأخيرة». وهذا يعني بوضوح أن القوات الإسرائيلية تخشى فقط أن تصيب نيرانها إسرائيليين، وتبيح قتل من عداهم.
اعتبارات سياسية
تقوم القوات الإسرائيلية بعملية تجريف واسعة وشاملة على عمق ألف متر على طول حدود قطاع غزة، وذلك لفرض منطقة عازلة يطلق النار على كل من يقترب منها أو يدخلها، وهي تسعى إلى إنشاء «شريط قاتل» يحيط بغزة من كل الاتجاهات. وقبل الحديث عن الخلفيات والاعتبارات والغايات الأمنية من هذا المشروع، لا بد من التنويه بأنه، وفورا بعد السابع من أكتوبر، طالب عدد من الساسة الإسرائيليين، بإضافة عقوبة «اقتطاع أراض» إلى مجموعة الأثمان التي على غزة أن تدفعها بسبب عملية السابع من أكتوبر. وبعد العملية بأسبوع، شرح الوزير جدعون ساعار زعيم حزب «الأمل» المشارك في المعسكر الرسمي الذي يتزعمه بيني غانتس، بأن على إسرائيل اقتطاع مساحة واسعة من غزة وفرض سيطرتها عليها وتحويلها إلى شريط أمني، حتى يعلم الجميع بأن «من يعتدي على إسرائيل يخسر من أراضيه». وطالبت قيادات اليمين المتطرّف بعدم الاكتفاء بالشريط وتوسيعه أكثر، ليشمل المناطق غير المأهولة في شمال غزة، ودعا آخرون إلى إعادة احتلال غزة بالكامل وفرض الحكم العسكري عليها، إضافة لذلك يعتقد بعض الساسة الإسرائيليين أن الشريط العازل يمكن أن يتحول إلى ذخر استراتيجي، وإلى ورقة مساومة مقابل الفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي، أي أن إسرائيل لن تقبل بتخفيف شروط الدخول، وفلاحة الأرض والإقامة في الشريط، إلّا مقابل الحصول على مكاسب وازنة أكثر في مجالات أخرى.
التعبير الإسرائيلي الدارج بخصوص الشريط العازل هو «بيريمتر»، أي المحيط وليس الحدود حصرا، والقصد إحاطة غزة من كل الجهات لإحكام السيطرة الأمنية عليها وإخضاع كل ما يدخل إليها لرقابة إسرائيلية مشددة، ومنع اقتراب الغزيين إلى السياج الحدودي المحاذي لغلاف غزة، وحجز إمكانيات تهريب الأسلحة عبر محور فيلادلفيا على الحدود المصرية. ويعتقد دعاة الترانسفير والتطهير العرقي في إسرائيل، وهم كثر، بأن خنق قطاع غزة إضافة إلى القصف الدائم سيشجّع ما يسمّى «الهجرة الطوعية»، ولا يجوز الاستهتار بهذا التوجه فهو حاليا في حالة «فكرة تنتظر الفرصة». أقل ما يقال عن الموقف الأمريكي بشأن «الشريط القاتل» أنه متأسرل ومتصهين مثل بقية مواقف بايدن وإدارته. فقد أعلن الرئيس الأمريكي وبعده وزير خارجيته أنتوني بلينكن، أن واشنطن تعارض احتلال غزة من جديد، وصرح الأخير بأن الولايات المتحدة ترفض، مبدئيا، مشروع الجدار، لكنّه أردف، وهذا المهم، بأنه يمكن القبول به كإجراء مؤقت، وقال ذلك مع علمه بالقاعدة الإسرائيلية أن «المؤقّت هو الدائم». ما يحدث هذه الأيام أن الدولة الصهيونية ماضية في تنفيذ مشروع «الشريط القاتل»، بلا معارضة داخلية، وبلا ضغط خارجي دولي ولا حتى عربي.
الشريط القاتل
بعد مقتل 21 جنديا إسرائيليا خلال قيامهم بنصب الألغام تحضيرا لتفجير أحد المباني في منطقة المغازي على بعد 600 متر من الجدار، في إطار تنفيذ مشروع «المنطقة العازلة» حول قطاع غزة برمته، بات واضحا للجميع أن إسرائيل لا تنتظر نهاية الحرب، وبدأت رسم معالم «اليوم التالي» كأمر واقع لا ينتظر تسويات أو مفاوضات. ووفق الخطة المرسومة والمعلنة بدأت في تنفيذ مشروع «الشريط القاتل» الممتد على طول حدود غزة، على عمق أكثر من ألف متر. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن طول حدود القطاع وإسرائيل هو حوالي 60 كيلومترا، والمساحة الكلية لقطاع غزة هي 365 كيلومترا مربعا، فإن المساحة التي تنوي إسرائيل اقتطاعها تصل إلى حوالي 20% من مساحة القطاع، ويعتمد حساب هذه النسبة إلى التقارير الواردة بأنّ عمق الشريط في بعض المناطق سيكون أكثر من ألف متر. كما أنّه ليس من الواضح بعد ماذا ستفعل إسرائيل في محور فيلادلفيا على طول المنطقة الواقعة بين غزة وسيناء، خاصة أن الغالبية الساحقة من النخب السياسية والأمنية متفقة على أن الحرب على غزة برمتها فاشلة، إذا لم تكن هناك سيطرة أو رقابة أمنية إسرائيلية على طول حدود غزة مع سيناء. ولكن إسرائيل تواجه عدة مشاكل في محاولتها فرض الهيمنة على محور فيلادلفيا منها صعوبات عسكرية، ورفض مصري للتعاون معها، وخشية من وجود عسكري دائم يكون عرضة للقنص والإغارة.
وقد نشرت «وول ستريت جورنال» مقالا مفصّلا حول «الشريط العازل» وأوردت فيه نتائج بحث للمحاضر في الجامعة العبرية في القدس، البروفيسور عادي بن نون، الذي فحص صورا جوية تبين أن الجيش الإسرائيلي قام بهدم 1072 مبنى من أصل 2824، الواقعة على بعد ألف متر أو أقل في عمق قطاع غزة، وقال بأن معظمها مبان سكنية، وظهر في البحث أن أكثر المناطق المأهولة هي خانيونس، حيث يوجد 1072 بيتا، هدم منها 704 بيوت، أي بنسبة 67%. ومن المعروف أن المنطقة الحدودية في غزة تستعمل للسكن وللزراعة ورعي المواشي وبعض الورش الصناعية، وليس فيها تقريبا أراض بور. ويقضي المخطط الإسرائيلي على تجريفها بالكامل وتسويتها بالأرض، بحيث تبعث «الطمأنينة» في نفوس مستوطني غلاف غزة، حين يعودون إلى مستوطناتهم، وبما يسهّل عملية السيطرة الأمنية ومنع إمكانية مباغتة جديدة. يطرح بعض الكتاب الصحافيين والمختصين الأمنيين تساؤلات حول نجاعة «الشريط العازل»، ويذكّرون بأن إسرائيل حاولت في الماضي فرضه بعمق 300 متر عن قطاع غزة، لكنّه فشل عمليا، على الرغم من أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل المئات وجرح الآلاف من غزيين اقتربوا من الجدار، وقام كذلك برش مبيدات النبات بالطائرات واستهدف المزارعين ورعاة المواشي وجامعي النفايات المعدنية وغيرهم. كما يطرح قسم من المحللين الإسرائيليين تساؤلا كيف للمنطقة العازلة أن تمنع إطلاق القذائف والصواريخ عن بعد.
وعلى الرغم من أنّ تنفيذ مشروع «الشريط القاتل» في أشدّه، إلّا أنه ليس واضحا بعد كيف ستجري عملية التحكم به أمنيا، وتدرس المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ثلاث إمكانيات: الأولى هي إقامة ثكنات دائمة، والثانية دوريات متحركة ومتواصلة، والثالثة إطلاق النار على كل من يقترب من الشريط أو يدخله، وقد يكون الدمج بين الثلاث.
تغييرات استراتيجية
تدرس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أسباب فشل استراتيجيتها في الامتحان العملي، وقد خرجت ببعض الاستنتاجات وبدأت بتطبيقها. ومن ذلك رد الاعتبار لمبدأ الأشرطة الأمنية، التي أصبحت مخططا فعليا على الحدود اللبنانية، حيث تشترط الدولة الصهيونية انسحاب قوات حزب الله إلى بعد سبعة كيلومترات عن الحدود، وإنشاء منطقة عازلة بالعمق نفسه على طول الحدود اللبنانية. ويسود الاعتقاد بأن سكان المستوطنات الحدودية لن يعودوا إذا لم يتحقق هذا الشرط. كما يقوم جيش الاحتلال بمحاولات حثيثة لمنع تموضع قوات «معادية» بالقرب من الجولان المحتل. وكذلك الأمر في غزة بدأت القوات الإسرائيلية الغازية في إنشاء الشريط العازل القاتل. ويبدو أن التوجه الإسرائيلي هو إحاطة الدولة الصهيونية بأحزمة من المناطق العازلة أو بتنسيق أمني مع دول وكيانات مجاورة. فكرة المناطق العازلة ليست جديدة، لكن جرى مؤخّرا وفي ظل حرب الدمار والإبادة، إعادتها كأولوية قصوى، ويظهر ذلك أيضا بمطالبة المستوطنين بتوسيع المناطق العازلة حول الكتل الاستيطانية والمستوطنات المنفردة. وهكذا نجد أن إسرائيل تعمل على فرض الأمر الواقع في غزة أولا وأيضا في الضفة والقدس. فما هو الرد العربي والفلسطيني على حرب الإبادة والدمار، وعلى سياسة الأمر الواقع الإجرامية؟ لا يعقل أن تنقلب الدنيا رأسا على عقب وتبقى الخلافات والحسابات الفلسطينية الداخلية كما هي. علينا أن نكرر بلا كلل أو ملل أن الوحدة الوطنية الفلسطينية لم تعد مجرد مطلب سياسي، بل حاجة وجودية لشعب يعاني ويتحدى معاناته.
إرسال التعليق