هل تتحكم إسرائيل بالقرار السيادي الأميركي؟
د. سنية الحسيني
ظهر نتنياهو قبل أيام في مقطع فيديو مصور يحث فيه الإدارة الأميركية على قمع طلاب جامعاتها، الذين خرجوا بالآلاف من عشرات الجامعات في أنحاء متفرقة من الولايات المتحدة مطالبين بوقف جرائم الإبادة الجماعية في غزة، واتهم نتنياهو تلك الاحتجاجات ضد جرائمه بأنها موجهة ضد السامية، في إنكار تام للواقع، وتدخل وقح في شؤون الولايات المتحدة الداخلية. وبينما تصاعد قمع الشرطة الأميركية للطلاب والأساتذة داخل ساحات الجامعات في مشاهد مستهجنة، جعلت الكثير يعيد التفكير بتلك المبادئ الدستورية الأميركية التي تحمي حقوق الإنسان وحرية الرأي والتي طالما تغنت بها الولايات المتحدة. إلا أن تلك التطورات ترفع عالياً السؤال الوارد في عنوان هذا المقال.
لم يعد خفياً ذلك الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل في جميع المجالات، فإسرائيل تكاد تكون غير موجودة من دون الولايات المتحدة. كشفت تطورات الأحداث على مدار السنوات الماضية أن الولايات المتحدة تحدد سياستها الخارجية ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط وفق أهداف ومصالح وإسرائيل. الا أن ما كشفته تطورات الأحداث الأخيرة داخل الولايات المتحدة وقمع الشرطة للاحتجاجات الطلابية السلمية المنتقدة لإسرائيل، أن التزام الإدارة الأميركية بإسرائيل يمتد داخلياً، حتى ولو كان على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان فيها. ورغم أن الولايات المتحدة طالما انتقدت ايران والصين وغيرها من الدول لقمعها احتجاجات مشابهه، إلا أن ما تقوم به اليوم في الجامعات يضعها في ذات الخانة، ولكن لقمع احتجاجات موجهة لانتقاد إسرائيل، ذلك الخط الأحمر الذي يحرم الاقتراب منه.
وقد يكون من المفيد التعرف على دور اللوبي الإسرائيلي في صنع القرار الأميركي، لنفهم مصدر قوة نتنياهو في إعطاء التعليمات لحكومة الولايات المتحدة بقمع احتجاجات طلاب جامعاتها، كما تحدى من قبل الرئيس أوباما من قلب الكونجرس الأميركي نفسه. يتكون اللوبي الإسرائيلي من مجموعة من المنظمات اليهودية، على رأسها لجنة الشؤون العامة الأميركية الصهيونية الـ “إيباك”، والتي تنخرط بقوة في مجالات أميركية جوهرية عديدة على رأسها السياسي والاقتصادي وغيرها. ويضم اللوبي يهوداً أميركيين من أصحاب الشركات والمصانع العملاقة وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة، بالإضافة إلى قياديين أميركيين ينتمون إلى المسيحية الإنجيلية التي تؤمن بوجود إسرائيل كجزء من النبوءة التوراتية. ويعمل هذا اللوبي على توجيه السياسة الأميركية لصالح إسرائيل، من داخل أروقة صنع القرار التشريعية والتنفيذية ومروراً بمؤسسات التأثير على الرأي العام كالإعلام ومراكز التفكير والجامعات. وينسق الإيباك، الذي يعرف من هم المؤثرون الأقوياء على صنع القرار في الولايات المتحدة، أهدافه السياسية مع إسرائيل، والذي يحولها بعد ذلك لسياسات قابلة للتنفيذ مع الإدارة الأميركية. ولا يقبل اللوبي بانتقاد سياسة إسرائيل من قبل الساسة الأميركيين، وقال السيناتور السابق أرنست هولنغز إن سياسة بلاده تجاه إسرائيل يضعها الإيباك، ولا يمكن لبلاده الخروج عنها.
يدعم اللوبي الإسرائيلي وصول المرشحين الرئاسيين والتشريعيين المنسجمين مع توجهاته ويحارب وصول المعارضين لها. واعتبر المفكر الأميركي نعوم تشومسكي في العام ٢٠١٨ “أن تدخّل إسرائيل في الانتخابات الأميركية متكرر وواسع جداً، وتفعل إسرائيل ذلك علناً وبوقاحة”. كما يضمن اللوبي وصول موظفين موالين له في المناصب الإدارية والتنفيذية في مؤسسات صنع القرار. ويحرص الرؤساء على إرضاء اللوبي الإسرائيلي وذلك بتعيين مساعديه ووزرائه من اليهود أو الموالين لإسرائيل، خصوصاً في المجالات التي تعتبر ذات طبيعة حساسة لإسرائيل. ومن الشائع أن يتوجه المشرعون للإيباك للحصول على معلومات ونصائح تتعلق بالتشريعات وبخطاباتهم حول إسرئيل قبل الذهاب لأي مكان آخر، وللحصول على الدعم المالي لكتابة الأبحاث أو لأغراض أخرى.
ويؤثر اللوبي الإسرائيلي على نتائج الانتخابات الرئاسية من خلال الدعم المالي للحملات الانتخابية للمرشحين المرغوب فيهم. ورغم أن اليهود لا يشكلون أكثر من ٣ في المائة من مجموع الناخبين الأميركيين، إلا أن تمركزهم في ولايات مهمة مثل كاليفورنيا ونيويورك وفلوريدا، وتصويتهم بنسبة مرتفعة مقارنة بأي أقليات أخرى، يجعلهم مؤثرين في نتائج الانتخابات. وخصص الإيباك للانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي ١٠٠ مليون دولار لتجنيد مرشحين، يتحدّون النواب الديمقراطيين الحاليين. وأطلق الإيباك خلال الانتخابات النصفية للكونغرس في العام ٢٠٢٢ حملة واسعة للتأثير على أصوات الناخبين الأميركيين لمنع صعود سياسيين معروفين بمناهضتهم لسياسات الاحتلال، خصوصاً ديمقراطيين تقدميين، مثل إلهان عمر ورشيدة طليب، والجمهوري توماس ماسي. وكشف موقع “إنترسبت” الأمريكي، في مقال نشر في العام ٢٠٢٠، الجهود التي تبذلها الإيباك في التضييق على النواب التقدميين للحزب الديمقراطي منذ دخولهم إلى الكونغرس. وأنفق اللوبي ما بين عامي ٢٠١٦ و٢٠٢٠ ما يقارب الـ ١٣٧ مليون دولار، ذهب جزء كبير منها في العام ٢٠١٨ لدعم ٢٦٩ مرشحاً لمجلس النواب، و٥٧ منها لدعم مرشحين من مجلس الشيوخ.
في دراسة نُشرت في شهر كانون الثاني الماضي في صحيفة الغارديان، تبيّن أن حوالى ٨٢ في المائة من أعضاء الكونغرس يؤيدون إسرائيل بشكل مطلق مقابل ٩ في المائة فقط يؤيدون الفلسطينيين.
يركز اللوبي الإسرائيلي على المؤسسات المؤثرة على تشكيل الرأي العام، لترسيخ رؤيته وفق الرواية الإسرائيلية بشكل عام، وإبعاد أي تأثير للرواية الفلسطينية. وتعد لذلك وسائل الإعلام الأميركية بشعبها الثلاث المرئية والمسموعة والمقروءة هدفاً مباشراً لاهتمام اللوبي، كذلك يهتم بوسائل التواصل الاجتماعي أيضاً في السنوات الأخيرة. وتمتلك جهات صديقة للوبي الإسرائيلي الكثير من وسائل الإعلام الكبرى في الولايات المتحدة. ويقوم اللوبي في العادة بتوجيه رسائل تنبيه أو اعتراض أو انتقاد لوسائل الإعلام ومن جهات متعددة لانتقاد خبر لا ينسجم مع سياسة إسرائيل، كما يوجه اللوبي نقده أو ملاحظاته لممولين وداعمين آخرين لوسائل الإعلام لحثهم على وقف تمويل إذاعة أو برنامج. ويدرب اللوبي كوادر شابة على الخطابة العامة والإعلامية للترويج للرواية الإسرائيلية، وتبقى تلك الكوادر حاضرة في تلك الوسائل الإعلامية.
وتحصل مؤسسات التفكير المهمة والمؤثرة في الولايات المتحدة على دعم واهتمام كبير من اللوبي الإسرائيلي وتتأثر بروايته. وأسس اللوبي مؤسسته الخاصة في العام ١٩٨٥ تحت اسم معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي يعد اليوم أحد تلك المراكز البارزة. ويدعم اللوبي الباحثين ويستقطب الأكاديميين والخبراء البارزين في مجالات متعددة. كما يركز اللوبي على الجامعات خصوصاً العريقة منها، ويقدم دعماً سخياً لتلك الجامعات ومساعدات ومكافآت مالية، ويدعم البحث العلمي. كما تلتزم تلك الجامعات بشراكات علمية مع الجامعات الإسرائيلية، وتستثمر مبالغ مالية كبيرة في مشاريع مشتركة متخصصة بجوانب علمية متعددة منها تلك التكنولوجية، التي باتت إسرائيل رائدة في صناعتها ومصدراً مهماً لها.
وفي إطار محاربة اللوبي الإسرائيلي للأكاديميين والرواية المتعارضة مع سياسة ومصلحة إسرائيل، أثارت على سبيل المثال دراسة مهمة حول دور اللوبي الإسرائيلي في صنع القرار الأميركي فور ظهورها ردات فعل معادية في الولايات المتحدة وإدانات من جانب أعضاء في الكونغرس وهيئات تحرير صحف رئيسة وأكاديميين مناصرين لإسرائيل، واتهامات باللاسامية، وتهديدات لجامعة هارفرد بوقف التبرعات عنها إذا لم تتخذ إجراءات تأديبية بحق مؤلفَيْ الدراسة. وخلال أيام أزالت جامعة هارفرد اسمها وشعارها عن الدراسة، وبعد فترة وجيزة اضطر ستيفن والت لتقديم استقالته من منصبه. وكانت الدراسة التي نشرت في العام ٢٠٠٦ في كلية جون كنيدي التابعة لجامعة هارفرد بعنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية” وكتبها عالما السياسة جون ميرشايمر وستيفن والت، انتقدا فيها النفوذ الهائل الذي يتمتع به اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وتأثيراته على سياسة وأفعال الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط. وخلص المؤلفان إلى أن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط موجهة لخدمة مصالح إسرائيل على حساب المصالح الأميركية. وطارد اللوبي الأساتذة والأكاديميين والباحثين الذين تعارضت أعمالهم مع مصلحة إسرائيل فكان إدوارد سعيد الأكاديمي الفلسطيني البارز والذي كان أحد كوادر جامعة كولومبيا هدفاً متكرراً لاستهداف اللوبي.
وكانت تصل الجامعة حسب جوناثان كول الرئيس السابق لها آلاف الرسائل التي تدعو لفصل سعيد ومعاقبته بعد كل تصريح أو مقال أو محاضرة لا تنسجم مع الرواية والسياسات الإسرائيلية.
لا يمكن القفز عن دور اللوبي الإسرائيلي في إقناع الإدارة بضرب نظام صدام حسين العام ٢٠٠٣، حسب ما أكدت صحيفة الواشنطن بوست، وهو ما تقاطع مع الرغبة الإسرائيلية. كما لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبه اللوبي لإقناع الإدارة باتخاذ موقف سلبي من الرئيس ياسر عرفات في تلك الفترة، ولا يمكن إغفال دوره اليوم في حرب غزة، والعديد من القضايا التي تعمل لغير صالح الفلسطينيين ودول المنطقة. ولا يمكن تجاهل دور اللوبي الإسرائيلي في التأثير على صنع القرارالأميركي، والذي يفسر موقف الولايات المتحدة ضد كل ما يتعارض مع مصلحة إسرائيل في المنطقة، لكن تأثير اللوبي الإسرائيلي داخلياً ليس تأثيرا بلا نهاية، وقد تكون رؤية الحيل الشاب للقضية الفلسطينية قاعدة انطلاق لتغيرات مستقبلية مهمة.
علينا العمل على توسيع خياراتنا واستخدام كل الأدوات التي نمتلكها لقلب تلك المعادلة في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل وجود جيل شاب أكثر وعياً وانفتاحاً. ولا يمكن تجاهل الدور الذي يمكن أن يشكله طلاب الجامعات الأميركية، وهو ما نشهده اليوم. لقد تحرر هؤلاء الشباب من الرواية الإسرائيلية والأميركية الملفقة، ورسخوا مقاربتهم تجاه القضية الفلسطينية والتي جعلتهم يقفون داعمين لها بروح الشباب الحماسيّة النقية. فالرواية هي مصدر الإلهام، وهي المهمة الواجبة علينا اليوم لتنظيمها وصقلها وترجمتها وبثها بالشكل اللائق والمناسب لقضية عادلة مثل القضية الفلسطينية. وما يجعل ذلك ممكناً اليوم توجه الشباب الأميركي للحصول على معلوماته عبر منصة تيك توك، للخروج من التضييق المعلوماتي في بلدهم.
وتحتل الولايات المتّحدة المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد المشتركين الفاعلين في المنصة.
ورغم أن ذلك أثار نقمة المشرّعين، الذين هاجموا المنصّة واتهموها بمعاداة السامية واتهموا الصين بالتآمر، وقاموا بتمرير قانون في آذار الماضي بأغلبية ساحقة يمهد لمنع التطبيق، إلا أن ذلك لا يمنعنا من البحث والتواصل وتكثيف العمل لخلق وسائل متعددة لتوصيل الرواية. وكما حققت مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال نجاحات مهمة توثقها الأرقام، يبدو أن تلك الاستراتيجية يجب أن تمتد وتتوسع لتشمل أيضاً المنتجات الأميركية في المناطق العربية والإسلامية. من قال إن شعوبنا العربية والإسلامية عاجزة عن تغيير الواقع وتكبيد الكيان المحتل وحليفته الأميركية الولايات ثمن الظلم التاريخي الذي أوقعوه علينا ليس فقط كفلسطينيين بل أيضاً في الوطن العربي، فالمقاطعة الاقتصادية وتوسيعها وتنظيمها والرواية الفلسطينية وصقلها وبثها بالشكل اللائق والمناسب هي مهمة لا تقل أهمية عن مهام أخرى خطيرة.
إرسال التعليق