العدالة لفلسطين قادمة

العدالة لفلسطين قادمة

د. سنية الحسيني
في تطور مهم أعلنت أيرلندا وبلجيكا وإسبانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ليصبح هناك ١٤٧ دولة تعترف بفلسطين من مجمل الـ ١٩٣ دولة، منهم ١٢ دولة من دول الاتحاد الأوروبي الـ٢٧. يأتي ذلك بعد أيام من إعلان كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، عن طلبه الحصول على أوامر اعتقال بحق بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ويوآف غالانت وزير دفاع كيان الاحتلال، وثلاثة قادة ينتمون لحركة المقاومة الفلسطينية حماس. كما لحق بتلك التطورات اصدار محكمة العدل الدولية تدابير إضافية تأمر إسرائيل بوقف هجومها على رفح وفتح المعبر لادخال الاحتياجات الأساسية للغزيين. وعكس إقرار الأغلبية في الجمعية العامة قبل ذلك بأيام وقبول ١٤٣ دولة بعضوية فلسطين في الأمم المتحدة دليلاً اضافياً بأن التحول قادم. يتزامن ذلك مع تغيرات سياسية هامة يشهدها العالم، فما بين الاحتجاجات الطلابية التي تجتاح العالم، خصوصاً الغربي، دعماً لتحرير فلسطين، وبين جلسات الاستماع العلنية القادمة من أهم منابر القضاء في العالم، أدانه لجرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين في غزة يبدو أن فلسطين تغير العالم. ورغم مرور ثمانية أشهر على جرائم الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، والدعم الأميركي المطلق للاحتلال والتغطية على جرائمه، واستمرار السلطات الغربية بين الدعم الصامت لإسرائيل أو التردد أو التحول لدعم فلسطين، ومواصلة المحاكم الدولية إجراءاتها، دون اتخاذ قرار حاسم يردع إسرائيل حتى الآن، يبقى العالم منتفضاً في أنحائه المختلفة نصرة لفلسطين وحق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير.

اعتبر خان في بيان صدر عنه يوم الاثنين الماضي وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت وآخرين يتحملون المسؤولية الجنائية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خلال وبعد هجوم السابع من أكتوبر من العام الماضي، وتشمل تجويع المدنيين واستهدافهم بالقوة القاتلة، الأمر الذي جعلته يطالب بإصدار مذكرات توقيف بحق المتهمين. وبمجرد صدور مثل تلك المذكرات، التي ستصدر عن لجنة قضاة المحكمة الثلاثية، ستقيد حركة المتهمين، الذين سيصبحون عرضه لإلقاء القبض عليهم من قبل الـ ١٢٤ دولة، الأطراف في نظام روما الأساس، بموجب التزاماتهم القانونية. كما ستواجه إسرائيل صعوبة في استيراد مزيد من الأسلحة، خصوصاً من قبل الحلفاء الغربيين، والذين بدأوا بالفعل في مواجهة ذلك، كما حدث مع ألمانيا في القضية المرفوعة ضدها في محكمة العدل العليا. على الجانب الآخر، لن يتأثر قادة المقاومة الفلسطينية بتلك التهم، والذين يحاربون الاحتلال من مواقعهم المختلفة، لأنهم في الأساس يصنفون أميركياً واسرائيلياً وأوروبياً كـ “إرهابيين”، ولا يعطي هؤلاء وزناً لذلك التصنيف في ظل إيمانهم بحرب التحرير المشروعة التي يخضونها.

لم يتهم المدعي العام للمحكمة الجنائية القادة الإسرائيليين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، غير أنه استعاض عن ذلك باتهامهم بارتكاب جريمة الإبادة والقتل ضمن الجرائم ضد الإنسانية، والناجمة عن سياسة التجويع، بالإضافة إلى الاتهام باقتراف جرائم حرب. وكانت محكمة العدل الدولية في ٢٦ كانون الثاني من العام الجاري، قد أصدرت قراراً يفيد بضرورة اتخاذ تدابير احترازية في الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بعد أن خلصت بوجود أسباب معقولة تدفع بالاعتقاد أن إسرائيل انتهكت بالفعل الاتفاقية، وترتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد المدنيين في قطاع غزة خلال الحرب الدائرة. وتعد تهمة الابادة الجماعية أحد التهم الأربعة التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها، بالإضافة لجريمة الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان، إلا أن جريمة الإبادة الجماعية تحتاج لاثبات النية بإرتكابها، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الوقت لاثبات ذلك، وهو ما قد يفسر استبعاد خان هذه التهمة من بين التهم التي وجهها لإسرائيل.

وتعبر هذه هي المرة الأولى التي تطالب فيها المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق قيادات في دولة غربية أو حليفة للغرب. وتضع مذكرة التوقيف بعد صدورها نتنياهو ضمن فئة القادة المتهمين، والتي تضم بوتين، الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه في العام الماضي، وكذلك الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، والرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي يعتبر أول رئيس تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضده وهو في السلطة. ورغم أنه من المتوقع خروج مثل تلك المذكرة ضد نتنياهو وغالانت وربما آخرين غيرهم في المستقبل، إلا أنه من غير المتوقع أن توقف إجراءات المحكمة الحرب الدائرة في غزة.

وتعمل المحكمة وفق مبدأ التكامل، اذ لايزال أمام إسرائيل إمكانية اخضاع قادتها داخلياً للتحقيق في الجرائم المرتكبة في غزة، الأمر الذي قد يعطل استكمال التحقيق في المحكمة الجنائية، إلا أنه أمر غير متوقع الحدوث حالياً في ظل تبجح حكومة نتنياهو وإصرارها على مواصلة اعتدائها على غزة. ولا تمتلك المحكمة أدوات تنفيذية، تمكنها من إلقاء القبض على المتهمين، ومحاكمتهم، وتعتمد على إرادة الدول الأطراف في نظام روما الأساسي بإلقاء القبض على المتهمين عندما يكون ذلك متاحاً. فرغم صدور مذكرة اعتقال بحق بوتين، ظلت تحركاته محسوبة، كما لم يقدم حلفاؤه على اعتقاله. وتوضح أيضاً قضية البشير الخلل الموجود في قدرة المحكمة على تحقيق العدالة المنشودة، فقد رفضت العديد من الدول المصدقة على نظام روما الأساسي، بما في ذلك تشاد وكينيا، التعاون في اعتقاله، كما أصدر الاتحاد الأفريقي تعليماته لأعضائه بعدم تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة بحقه.

ومن غير المتوقع أن يتم إلقاء القبض على نتنياهو أو غالانت أيضاً، على الرغم من دعم دول عديدة لإجراءات المحكمة منها فرنسا وبلجيكا وحلفاء أوروبيين آخرون، وتصريحات رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بأنه إذا صدرت أوامر الاعتقال، فسيتعين على بريطانيا أن تقوم بذلك.وتبقى جرائم إسرائيل محرجة بشكل خاص، في ظل انكشاف وجهها القبيح أمام العالم، خصوصاً الشعوب الأوروبية التي ترفع من مستوى ضغطها على حكومات بلادها لجريمة تصفية الشعب الفلسطيني وقضيته.

وجاء قرار محكمة العدل الدولية قبل يومين باضافة تدابير إضافية جديدة تأمر إسرائيل في قضية الاتهام بالإبادة الجماعية في غزة، لتعكس قلق حقيقي للمحكمة في ظل عدم التزام إسرائيل. جاء قرار محكمة العدل الدولية في أعقاب دعوة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت، وهو تطور مهم إضافي. وأمرت محكمة العدل الدولية في قرارها الآخير إسرائيل بوقف هجومها العسكري على رفح وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، وضمان وصول أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية. وتعد قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة، ولا يمكن التصويت ضدها في مجلس الأمن. ردت إسرائيل على ذلك القرار بالتحدي وصعدت من هجماتها على رفح. وتستطيع الدول العربية والصديقة صياغة مشروع قرار في مجلس الأمن، يدعو لاعتبار إسرائيل دولة مارقة تتحدى القانون الدولي، في حال عدم التزامها بقرار محكمة العدل الدولية، واعتبار أن تحدي إسرائيل للقانون الدولي يفتح المجال لفرض عقوبات عليها، وفق الفصل السابع. ورغم أنه من المتوقع أن تستخدم الولايات الفيتو لحماية إسرائيل، إلا أن ذلك سيعمق الأزمة الأخلاقية الكبرى التي تواجهها الولايات المتحدة الآن.

ليس هناك ثقة في المنظومة الغربية المؤسساتية والقضائية، فطالما أثبت مجلس الأمن بتركيبته المسيسة عدم عدالته، والقضية الفلسطينية أكبر شاهد على ذلك. كما طالت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بعدم النزاهة، خصوصاً من قبل دول القارة الأفريقية، فخلال تاريخ المحكمة الممتد لـ ٢٢ عاما، لم توجه اتهامات إلا لأفراد من أفريقيا، ومؤخراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأعلنت هذه المحكمة في العام ٢٠٢٠ عن التحقيق في جرائم الولايات المتحدة في أفغانستان، دون أن تستكمل تلك التحقيقات. ورغم إعلان المحكمة في العام ٢٠٢١ عن فتح تحقيق في اعتداءات الاحتلال المتكررة على غزة وتمدد الاستيطان في الضفة، بناء على طلب فلسطين، لم تتخذ المحكمة أية إجراءات ذات معنى، رغم التقارير المتعددة التي صدرت بإدانة إسرائيل، عن لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، وعدد من منظمات حقوق الإنسان المستقلة ذات المصداقية العالية، منها أميركية وإسرائيلية. وتعكس تطورات اصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين، الواقع السياسي الذي يحكم المحكمة الجنائية الدولية. فبعد أسابيع من الحرب الروسية الأوكرانية صدرت مذكرة الاعتقال بحق الرئيس الروسي، بينما جاءت دعوة المدعي العام للمحكمة بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بعد مرور ثمانية أشهر من حرب الإبادة المدمرة في غزة، وسقوط عشرات الاف الأطفال ومئات آلاف الضحايا، والتي لا تقارن بأي حال بما يحدث في أوكرانيا.

أكد خان على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، رغم تصريحاته بالدعوة لاصدار مذكرة اعتقال لقيادات إسرائيلية لارتكابها جرائم بحق الفلسطينيين في غزة. واعتبرت لجنة الخبراء السداسية التي شكلها خان، لمساعدته في التحقق من الأدلة وتحليلها، أن هناك “احتلالاً عسكريًا من قبل إسرائيل” على “بعض أجزاء من فلسطين”، وأن المدنيين في غزة كانوا يعتمدون على إسرائيل في الحصول على ضروريات البقاء على قيد الحياة قبل السابع من أكتوبر، بسبب القيود التي فرضتها إسرائيل على التنقل في غزة، في أعقاب “انسحابها” أو إعادة انتشارها. فصل خان واللجنة، في خلل واضح، أحداث السابع من أكتوبر عن سياقه، والمتعلق بالاحتلال الطويل والممتد لكافة الأراضي الفلسطينية منذ عقود، والتي تمنح رجال المقاومة المنظمة والمسلحة حماية خاصة في القانون الدولي، وتصادر حق الاحتلال بادعاء “الدفاع عن النفس” في الأراضي التي يحتلها. كما تناسى خان ولجنته لقاعدة قانونية راسخة تفيد بأن توقيع اتفاق أوسلو لا يبطل واقع الاحتلال على جميع الأراضي الفلسطينية، وهو ما أكدت عليه محكمة العدل الدولية في قرارها الاستشاري الخاص بالجدار في العام ٢٠٠٤، والمحكمة الجنائية الدولية نفسها في العام ٢٠٢١ عندما أشارت إلى وجود ولاية قانونية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، ناهيك عن مئات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. كما تعد محكمة العدل عاجزة لاقرار العدل في ظل ارتباط قرارتها، التي تنظر وفق اعتبار العدالة وتطبيق القانون، بالجانب التنفيذي المقر من مجلس الأمن، العاجز بسبب الفيتو، وتحديداً الأميركي في الحالة الفلسطينية.

يحاكم الكيان المحتل في محكمة العدل الدولية، وقد تصدر مذكرات اعتقال بحق قادته من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ويخوض نتنياهو معارك قضائية محلية في قضايا فساد وسُوء استخدام للمنصب منذ سنوات، وتجوب شوراع العالم وجامعته ملايين الأحرار المطالبين بالعدالة لفلسطين. ورغم ذلك في حال صدرت مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت فإنه ليس من المتوقع إلقاء القبض عليهما، كما ليس من المتوقع أن بنجح مجلس الأمن بفرض عقوبات على إسرائيل في حال صدر قرار ضدها من محكمة العدل الدولية، بسبب الفيتو الأميركي، كما أن تلك القرارت لن يوقف الحرب الدائرة اليوم في غزة. إلا أن ذلك من شأنه أن يعطل حركة أعضاء هذه الحكومة اليمينية العنصرية المتطرفة، التي ترتكب الجرائم بحق الفلسطينيين، ويفضح حقيقتها أكثر أمام العالم، ومن الواضح أن التغيير قادم، وفضح إسرائيل مستمر، ونقترب كل لحظة من تحقيق العدالة لفلسطين.

إرسال التعليق