ملاحظات حول الانتخابات الفرنسية …وفلسطين حاضرة
د. سنية الحسيني
قبل أيام من افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس، جاءت الانتخابات الفرنسية بنتائج محيّرة، وخلقت أجواء سياسية ضبابية حول شكل وتوجهات الحكومة المقبلة، في ظل برلمان معلّق، وتباينات جوهرية بين الكتل البرلمانية يصعب جسرها. عكست نسبة المشاركة الانتخابية الكبيرة بين الفرنسيين وغير المعهودة منذ عقود تلك الحالة الاستثنائية في فرنسا، فتخطت نسبة الاقبال الانتخابي الـ ٦٧ في المائة، واعتبرت الأعلى منذ العام ١٩٩٧ . وجاءت تلك الانتخابات في غير موعدها، بعد أن قرر الرئيس إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية أي البرلمان، والدعوة لانتخابات جديدة. وتصل الاختلافات بين تلك الكتل البرلمانية المنتخبة تجاه فلسطين وقضايا جوهرية أخرى حد التصادم. فما هي الواجهة السياسية للحكومة المقبولة في فرنسا؟ وماذا سيكون موقفها تجاه القضية الفلسطينية؟ في ظل اعتماد فرنسا بشكل عام لسياسة تحاول أن تظهر بالاعتدال، دون التخلي عن دولة الاحتلال.
وضع الرئيس الفرنسي بلاده في مأزق عندما أعلن في التاسع من الشهر الماضي حل البرلمان، ودعا لانتخابات تشريعية مبكرة، عُقدت بالفعل ما بين نهاية الشهر الماضي والأسبوع الأول من الشهر الجاري. وجاء ذلك القرار في أعقاب خروج نتائج انتخابات ممثلي بلاده في الاتحاد الأوروبي لغير صالح تكتله الوسطي، حيث كسب تلك الانتخابات التكتل اليميني، بضعف الأصوات التي حصدها التكتل الحاكم، رغم عدم وجود أي قاعدة أو قانون يجبر الرئيس على اجراء تلك الانتخابات في غير موعدها. جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية بدورتها الثانية يوم الأحد الماضي. وفي إطار ثلاث كتل متنافسة، يسارية ويمينية ووسطية، تصدرت الجبهة اليسارية المشهد الانتخابي، بعد حصولها على أعلى الأصوات، بشكل خرج عن التوقعات، فحصلت الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة على ١٨٢ مقعداً في البرلمان. ويتبنى اليسار في فرنسا مواقف داخلية تدافع عن المهاجرين، وخارجية تطالب بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتدعو لوقف حرب الإبادة على غزة. وترجمت الكتلة توجهاتها السياسية في برنامج سياسي متكامل، طرحته في الانتخابات، وتنافست في اطاره مع الكتل الأخرى. وفي حين حصد تحالف الرئيس الفرنسي الوسطي “معاً للقيادة” على ١٦٨ مقعداً، وبات ثاني أكبر التحالفات في تراجع سياسي كبير، خلق أزمة سياسية، بعد أن كان يمثل أقوى تحالف في البلاد ويمتلك أغلبية مقاعد البرلمان، ويوفر حالة من التوازن بين توجهات مؤسسة الرئاسة الممثلة للسلطة التنفيذية والبرلمان، في نظام يحتفظ بصلاحيات كبيرة للرئيس، يعرف بالنظام شبه الرئاسي. وتتناقض توجهات وسياسات الكتلة الرئاسية الوسطية معاً مع الكتلة اليسارية، في العديد من الملفات الداخلية والخارجية، على رأسها المواقف من اللاجئين والقضية الفلسطينية، لدرجة جعلت عدداً من زعماء حزب الرئيس الفرنسي يتهم مرشحي اليسار بـ “معاداة السامية”. وجاء التجمع الوطني اليميني في المرتبة الثالثة بحصوله على ١٣٤ مقعداً، بعد أن كان يتصدر بفوزه التوقعات. ويحمل التكتل اليمني، مواقف متطرفة تجاه الهجرة والمسلمين والقضية الفلسطينية، وعنصرية تميز ضد مزدوجي الجنسية من أصول عربية وأفريقية.
وضعت هذه النتائج غير المألوفة فرنسا في مأزق سياسي، حيث لا يمتلك أي من تلك الكتل البرلمانية الجديدة الفائزة في الانتخابات الأغلبية المطلقة او المطلوبة اللازمة لتمرير التشريعات واقرار الموازنات، وهو ما يعرف بـ “البرلمان المعلق”. وتحتاج الأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي الحصول على ٢٨٩ صوتا من مجمل كامل أصواته الـ ٥٧٧، التي تعكس عدد مقاعده. كما أن الكتلة البرلمانية الأكبر في الجمعية الوطنية اليوم، تحمل توجهاً يسارياً يختلف عن توجه حزب وحلف الرئيس، والتعامل في اطار ذلك الوضع يطلق عليه بـ “التعايش”، حيث لم تواجه فرنسا بنظامها السياسي المعدل الحالي، والذي بدأ العمل به منذ العام ١٩٥٨ تلك الأزمة الا مرتين، في عهد فرنسوا ميتران وفي عهد جاك شيراك. ولضمان استقرار البلاد، طلب الرئيس الفرنسي من رئيس وزرائه البقاء في منصبه يوم الاثنين الماضي، بعد تحرك الأخير حسب الأصول المعمول بها في فرنسا لتقديم استقالته، في أعقاب ظهور نتائج الانتخابات في اليوم السابق، والتي كانت في غير صالح التحالف الحاكم. وحسب الدستور الفرنسي، يختار الرئيس رئيس الوزراء، وفق نتائج الانتخابات ومن الكتلة البرلمانية التي تفوز بغالبية الأصوات، ثم يتم اقرار ذلك بالتصويت في الجمعية الوطنية. ووفقاً لذلك، دعت جبهة اليسار الرئيس الفرنسي لاختيار رئيس الوزراء منها.
تواجه فرنسا اليوم معضلة حقيقية عكستها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وكان غابريل أتال رئيس الوزراء المنتهية ولايته قد حذر من خطر حصول تكتل أقصى اليمين أو اليسار في الانتخابات الأخيرة للأغلبية المطلقة. معتبراً أن التكتلين متطرفان، إلا أنه اعتبر حصول ذلك لتكتل اليمين أمر كارثي. ويبقى خطر تصاعد قوة اليمين المتطرف في فرنسا جاثماً. ففي نهاية الشهر الماضي، جاءت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية منسجمة مع النتائج التي أفرزتها انتخابات الممثلين الفرنسيين في البرلمان الأوروبي. كما حصل ممثلو اليمين على العدد الأكبر من الأصوات في الدورة الثانية، إلا أن يترجم ذلك لم يترجم في عدد المقاعد، بسبب طبيعة النظام الانتخابي القائم على أساس جولتين انتخابيتين في دوائر فردية. ونجح التيار اليميني في مضاعفة حضوره السياسي، وبعد ان كان حزب التكتل الوطني يشغل ٨٩ مقعداً بات وحلفاؤه يمتلك ١٤٣ مقعداً.
شكّل ظهور نتائج الدورة الانتخابية الأولى لصالح اليمين، في تشابه مع نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية في الاتحاد الأوروبي مدعاةً لدق ناقوس الخطر للتكتل الحاكم واليسار على السواء. فشكّل اليسار كتلته بعد ساعات من إعلان نتائج الدورة الاولى من الانتخابات التشريعية. وأبرز اليسار قدرة متناسقة لمواجهة الإعلام بما يخدم مصالح التكتل الانتخابية. وجرى الحديث عن حملة منسقة بين جبهة اليسار والوسط لمواجهة تقدم اليمين. فانسحب أكثر من ٢٠٠ مرشح من اليسار والوسط من دوائر كانت تشهد منافسة بين ٣ مرشحين في الدورة الثانية لتقليل حظوظ فوز منافس من التجمع الوطني اليميني، بما يعرف بـ استراتيجية “السد الجمهوري”. ويفسر ذلك حصول التكتل الرئيسي على عدد مقاعد برلمانية معقول، رغم حدة المعارضة. نجح ذلك بالفعل في تحييد تصدر اليمين المشهد السياسي الفرنسي هذه المرة، خصوصاً بعد أن فشل اليمين في الاتفاق على تشكيل جبهة موحدة تدخل الانتخابات التشريعية، كما حدث انشقاق داخل حزب “استرداد” الذي يتزعمه ايريك زمور، وخروج تصريحات قادته بشكل غير منسق وعنصري، وكلها عوامل لم تساعد اليمين في البروز في الدورة الانتخابية الثانية.
في الثامن عشر من الشهر الجاري من المقرر التئام الجمعية الوطنية لحسم صورة التكتلات البرلمانية المنتخبة رسمياً، وعليه يصبح من الضروري تحديد شكل الحكومة المقبلة، وانتهاء دور حكومة تصريف الأعمال الحالية المؤقتة ومحدودة الصلاحيات. يأتي ذلك مع ضرورة الوضع بعين الاعتبار أنه ليس من حق الرئيس في الوقت الحالي، ولمدة عام الدعوة مجدداً لحل البرلمان، لذلك يستطيع البرلمان خلال العام القادم الإطاحة بالحكومة في أي وقت، دون خشية حله من الرئيس، الأمر الذي من شأنه أن يعقد الوضع أكثر. كما جرى الحديث عن امكانية تفعيل المادة ١٦ من الدستور، بسبب تلك التطورات، تحت عنوان الاجراءات الكاملة أو التفويض الكامل الذي يمنح للرئيس، إلا ان تلك المادة لا تفعّل إلا في حالات استثنائية محددة، عندما تتعرض فيها مؤسسات البلاد أو استقلالها أو سلامة أراضيها لتهديد جدي، وهو الأمر الذي لا ينطبق على الوضع القائم. كما أن استقالة ماكرون والدعوة لانتخابات رئاسية يعد السيناريو الأبعد للتحقق، بعد أن أعلن ماكرون عدم نيته القيام بذلك.
ويبقى السيناريو الأقرب للتحقق أن يطلب الرئيس من كتلة اليسار تشكيل الحكومة. وهو أمر ممكن، فالتعايش بين رئيس وحكومة من اتجاهين سياسيين مختلفين حدث قبل ذلك في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي عمل مع رئيس الوزراء جاك شيراك. إلا أن وجود فجوة واسعة بين سياسات ماكرون السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتكتل اليسار الفائز في الانتخابات، والتي جاءت ببرنامج ينقذ فرنسا من الماكرونية على حد وصفهم، وشخصية ماكرون وتجربته التي تقوم على تركز السلطة في يده، يجعل حدود ومستقبل التعايش مجهولاً. كما يمكن حدوث التصادم خصوصاً في اطار السياسة الخارجية، والدور الكبير للرئيس في صنعها وتنفيذها، وهو ما يعرف بالمجال المحجوز، والذي لا ينص عليه الدستور، في ظل خلافات جوهرية في المواقف بين الجهتين. لن تغيير اقتراحات مثل تشكيل ائتلاف حكومي بين جبهتي اليسار والوسط، غير معتادة فرنسا على تشكيله، أو تشكيل حكومة فنية أو تكنوقراط من واقع المشهد المعقد المتوقع باحتدام المواجهة بين مؤسسة الرئاسة صاحبة الصلاحيات الكبيرة، والبرلمان المنقسم بشدة بين ثلاثة كتل متناقضة التوجهات، وليست بالضرورة منسجمة مع توجهات مؤسسة الرئاسة. أيام قليلة تفصلنا عن معرفة أين ستتجه الأمور في فرنسا، لكن الشيء المؤكد أن صعود اليسار لصدارة المشهد السياسي الفرنسي، وهو الذي يتبنى الدفاع عن الحق الفلسطيني، انجاز حقيقي لقضية عادلة طالما ساهم العالم الغربي في التنكر لها.
إرسال التعليق