العدل الدولية في رأي إستشاري تطيح بإسرائيل
د. سنية الحسيني
جاء الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضي حول واقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليطيح بما تبقى لإسرائيل من مكانة سياسية ودبلوماسية دولية، في ظل حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وليسلح المحتجين والمتظاهرين ضدها في كافة أنحاء العالم والمطالبين بالحرية لفلسطين بمعطيات قانونية دامغة تزيدهم إيماناً بعدالة القضية الفلسطينية وتشبثاً برفع الظلم عن الفلسطينيين. ورغم أن ما جاءت به محكمة العدل الدولية فيما يخص فلسطين والفلسطينيين ليس جديداً، فعجت تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية واللجان الدولية بتلك الحقائق، ناهيك عن الصوت الفلسطيني الذي لم يخفت يوماً في المطالبة بتلك الحقوق، رغم كل التحديات والتضليل والإنكار، إلا أن رأي المحكمة يحمل بعداً قانونياً حاسماً لا ريب فيه، من أعلى جهة قضائية دولية ذات الاختصاص، لتسكت أية حجج أو مبررات أخرى في ذات الخصوص.
ورغم أن رأي محكمة العدل الدولية حول القضية الفلسطينية رأي استشاري غير ملزم التطبيق، إلا أنه يبقى بوصلة قانونية ذات مغزى تؤكد على واقع القضية الفلسطينية على أساس أنها قضية أرض وشعب محتل، بكل ما يحمل ذلك من تبعات قانونية، وتعزل جميع الادعاءات الإسرائيلية التي تهدف لإخراج القضية الفلسطينية عن سياقها الحقيقي. ويسعى الاحتلال إلى إظهار القضية الفلسطينية كحالة صراع بين جهات متنازعة أو حول أرض متنازع عليها. وكشف رأي المحكمة أيضاً عن قضية هامة تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي الطويل، الذي يتنافى مع جوهر تصنيف القانون لحالة الاحتلال وفق أساسه المؤقت، اذ تعد تلك القضية الجوهرية، وهذا الخرق لطبيعة الاحتلال في فلسطين المسؤول عن جميع الآثر والتبعات غير القانونية والشاذة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية اليوم. يفاقم الطابع المطول للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين من معضلة انتهاك الحق في تقرير المصير، وترسيخ ذلك الانتهاك عبر الزمن بديمومته. يساعد رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري حول القضية الفلسطينية للاسترشاد به في القضية المرفوعة ضد إسرائيل في ذات المحكمة حول اتهامات بالإبادة الجماعية في غزة، وفي المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها بحدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة ليضفى ذلك بعدا مهماً على تلك الاتهامات.
جاء رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري، الذي وضع باجماع ساحق لقضاة المحكمة الـ١٥، في ٨٠ صفحة، يوم الجمعة الماضي. وجاء استفتاء المحكمة بطلب من الجمعية العامة مطلع العام الماضي، حول العواقب القانونية الناتجة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومواصلة سياسة الاستيطان وضمها المستمر لأراضي الفلسطينيين منذ العام ١٩٦٧، وتغيير التركيبة الديمغرافية في الضفة الغربية وطابع مدينة القدس، في ظل احتلال طال أمده، على غير الطبيعة المؤقته للاحتلال. ووفقًا لنظام لاهاي لعام ١٩٠٧، والذي يعتبر عرفاً ملزماً، يعد الاحتلال إجراء قانوني، يمكن لأي طرف أن يمارسه أثناء النزاعات، طالما أنه مؤقت ويتم تنفيذه وفقًا للقواعد الدولية. وتؤكد المادة ٤٩ من اتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩ على تلك الطبيعة المؤقتة للاحتلال، وهو الحد الذي تجاوزته إسرائيل في احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، عبر أكثر من ٥٦ عاماً.
واعتبرت المحكمة في ردها الاستشاري على الجمعية العامة أن استمرار الاحتلال في الأراضي الفلسطينية ممثلة بغزة والضفة بما فيها القدس غير قانوني، واعتبرت المحكمة أن إسرائيل ملزمة بانهاء ذلك الاحتلال فوراً، وتعويض الفلسطينيين عن الاضرار التي لحقت بهم جراء ذلك الاحتلال الطويل، ووقف الاستيطان وإخلاء جميع المستوطنيين من الأراضي المحتلة. أكدت المحكمة على عدم شرعية المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، واعتبرت أن النظام المرتبط بالاستيطان بكل تفاصيله غير قانوني، وهو الأمر الذي اعتبر تكراراً لما جاء في حكم سابق للمحكمة في العام ٢٠٠٤، يتعلق بجدار الفصل العنصري الذي شيد على أراضي الفلسطينيين. وأشارت المحكمة إلى معضلة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً، وتصاعده في عهد حكومة نتنياهو اليمينية الحالية بشكل خاص، وهو ما يعكس الهدف الإسرائيلي الرئيس بالاستيلاء على الأرض الفلسطينية، والذي بات صريحا علنياً دون مواربة من قبل الحكومة الإسرائيلية الحالية، بعد أن كان استيطاناً زاحفاً ضمن سياسة مواربة، تحمل ذات الهدف. كما اعتبرت المحكمة عدم قانونية استخدام إسرائيل للموارد الطبيعية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وحرمان الفلسطينيين من استغلالها. واعتبرت كذلك المحكمة أن توسيع نطاق اختصاص القانون الإسرائيلي ليشمل سكان القدس الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين في مستوطنات الضفة والقدس انتهاك خطير للقانون. وتتبنى إسرائيل تلك السياسة منذ عقود وتوسع مداها طردياً، الأمر الذي يزيد من تعقيدات الحياة اليومية للفلسطينيين، ويفتح المجال واسعاً أمام دولة الاحتلال لممارسة التمييز العنصري ضد الفلسطينيين. ودعت المحكمة جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لعدم الاعتراف بشرعية الوضع في الأراضي المحتلة، وعدم التعاون وتقديم المساعدة لدولة الاحتلال، كما دعت الجمعية العامة للبحث عن الوسائل والإجراءات اللازمة لضمان انهاء الاحتلال وذلك الوضع غير القانوني في الأراضي المحتلة على وجه السرعة.
يأتي ذلك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، محدداً وحاسماً لواقع حالة احتلال لا لبس فيها، فالحالة الفلسطينية ليست حالة صراع أو نزاع، بل هي حالة احتلال ودفاع عن النفس لا لبس فيها. ويترتب على ما جاء برأي المحكمة حقوق واضحة ومحددة للشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال في القانون، والتزامات قانونية محددة للقوة القائمة بالاحتلال، وفق العرف والقانون الدولي، وهو ما عكسته بالفعل العديد من قرارات الجمعية العامة الخاصة بفلسطين. ويشير قرار المحكمة لتبعات سياسة إسرائيل كقوة محتلة تستخدم القوة المفرطة ضد المدنيين، والإجحاف الفاحش بحقوقهم، من جهة، ولواقع احتلال مخالف لطبيعته المؤقته، والذي ترتب على اثر تلك المخالفة تبعات كارثية تنتهك حق راسخ في القانون الدولي يتعلق بحق تقرير المصير، وينتج خرق كبير للقانون يتعلق بالتمييز العنصري. اعتبرت المحكمة أن الاستخدام المفرط للقوة ضد الفلسطينيين، وعنف المستوطنين ضدهم، يخلق بيئة قسرية في الأراضي المحتلة. إن ذلك يعني أن وجود الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفق طبيعته العنيفة ضد الفلسطينيين، واستراتيجياته التي تستخدم المستوطنين بشكل ممنهج ومبرمج، يخلق بيئة تصادمية مفروضة على الفلسطينيين، الذين ليس أمامهم من خيار إلا الدفاع عن النفس.
يعد رأي محكمة العدل الدولية تاريخي بحق القضية الفلسطينية، ومنصف للفلسطينيين بعد عقود من الظلم الذي وقع عليهم. وتزداد أهمية رأي المحكمة اليوم عندما يقترن ذلك الرأي بتصريحات قادة دولة الاحتلال، التي تؤكد على إصرارها على تجاهل القانون والعدالة والاستهتار بالمحاكم الدولية، واتهامها بمعاداة السامية. وتؤكد تلك التصريحات على توفر النية الواضحة والصريحة، والتي اقترنت بالفعل والممارسة عبر عقود ماضية، بانتهاك حقوق الفلسطينيين وعلى رأسها حق تقرير المصير، واستخدام الزمن والاحتلال الطويل، والمماطلة والتحايل على القانون، لفرض واقع آخر غير قانوني يتنكر للوجود الفلسطيني. لم تأت التصريحات الاسرائيلية فقط، التي تؤكد أن الأرض الفلسطينية المحتلة هي حق “ديني وتاريخي، لدولة إسرائيل، من قبل قيادة الحكومة اليمنية المتطرفة ممثله برئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، بل جاءت من قبل ممثلي المعارضة الأقل يمينية أيضاً، ممثلة بـ لابيد وغيره، الذين ينكرون حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم. ويدعم ذلك التوجه الإسرائيلي دعوة الكنيست مؤخراً للتصويت على مشروع قانون لا يسمح بإقامة دولة فلسطينية، لينضم إلى مجموعة التشريعات التي تنكر حق تقرير المصير للفلسطينيين، وتحصره فقط لليهود، بما يعد دليلاً إضافياً على توفر النية وراء جميع جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين، ويفسر أفعالها تجاه الفلسطينيين وفق تلك النية. إن سياسة الإستيطان التي أرستها حكومات دولة الاحتلال في فلسطين اليسارية واليمينية بعد إحتلال ما تبقى من فلسطين في العام ١٩٦٧، جاءت لتحقيق هدف بعيد المدى لدولة الاحتلال، بالسيطرة الدائمة على كل الأرض الفلسطينية، وهو ما تجسد بعد ذلك في اتفاقية أوسلو، التي سعى من خلالها الإحتلال لضمان استمرار التمدد الاستيطاني الزاحف، والسيطرة على الأرض، مع محاولة منها لتبديل المفاهيم والمصطلحات القانونية، ونفي حالة الاحتلال عن الأرض الفلسطينية، لضمان تحقيق ذلك الهدف بإنكار حق الفلسطينيين في أرضهم.
تأتي تلك الحقائق التي رسّخها رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري كقواعد موجهة ومحددة لأي قضايا أخرى مرفوعة ضد إسرائيل في المحاكم الدولية. وتنظر محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية في غزة، رفعتها ضدها جنوب أفريقا، قبل أن تنضم اليها العديد من الدول أيضا، كما تحقق المحكمة الجنائية الدولية في اتهامات بارتكاب إسرائيل لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.
بسبب طبيعة المحكمتين، تعد المحكمة العدل الدولية الجهة الأنسب التي على الفلسطينيين متابعة قضيتهم من خلالها، وتبقى المحكمة الجنائية الدولية مكملة في تحقيق العدالة المنشودة للفلسطينيين. من منطلق الشرعية، تعد جميع دول العالم الـ ١٩٣ الأعضاء في الأمم المتحدة دون استثناء أعضاءً في محكمة العدل الدولية، فالمحكمة أحد أجهزة الأمم المتحدة الرئيسية الستة التي تشكلت منذ نشأة الأمم المتحدة في العام ١٩٤٥، وأحكام المحكمة نافذة غير قابلة للاستئناف، بينما انضمت لميثاق روما الأساس المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ١٢٤ دولة فقط، أمريكا وروسيا والصين والهند، ودول عديدة أخرى ليست من بينها. ومن منطلق قانوني بحت، تختص محكمة العدل الدولية بالنظر في منازعات الدول، بينما تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد ومحاسبتهم على جرائم كبرى اقترفوها، كجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجريمة العدوان. إن ذلك يفسر الجانب التكاملي بين المحكمتين، فمحاسبة الدول تكون من خلال محكمة العدل الدولية، بينما لا يهرب الأفراد المرتكبين للجرائم من العقاب أيضاً، من خلال محاكماتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية. ويتسع النطاق الزمني الذي تنظر من خلاله محكمة العدل الدولية في القضايا المرفوعة أمامها، فهو نطاق مفتوح، يمكن أن يسمح لها بالعودة للماضي، كما فعلت عندما نظرت في طبيعة الاحتلال الإسرائيلي منذ العام ١٩٦٧، بينما يضيق النطاق الزمني المسموح لنظر المحكمة الجنائية الدولية، والمقيد اولاً بنشئة المحكمة، التي دخل عملها حيز النفاذ في العام ٢٠٠٢، ثم يقيد أيضاً بتاريخ قبول الدولة في عضوية المحكمة، فلا يمكن النظر في قضايا لفلسطين قبل العام ٢٠١٥، أي تاريخ انضمامها للمحكمة، على سبيل المثال.
طرحت القضية الفلسطينية أمام محكمة العدل الدولية لأول مرة في العام ٢٠٠٣، لإبداء رأي إستشاري حول جدار الفصل العنصري، ويعد الرأي الذي أصدرته المحكمة مؤخراً حول ممارسات الاحتلال الثاني، إلا أنه الأول بشموليته حول واقع الاحتلال بشكل عام. وتأتي تلك الوظيفة للمحكمة في إعطاء آراء استشارية قانونية كمهمة إضافية للمهمة الرئيسية التي تتعلق بالنظر في النزعات بين الدول. وعادة ما تطلب أجهزة الأمم المتحدة من المحكمة ابداء مثل تلك الآراء الاستشارية، كما حصل قبل عام ونصف عندما صدر قرار عن الجمعية العامة بالإجماع للتوجه للمحكمة لاستطلاع رأيها حول ممارسات الاحتلال في فلسطين، وحصل ذات الأمر في العام ٢٠٠٣، حول استشارة المحكمة عن جدار الفصل العنصري. في هذه المحكمة لا تستطيع فلسطين أن تتقدم إلى المحكمة للنظر حول قضية ما لسببين، أولهما أن فلسطين ليست عضو في المحكمة، لأنها ليست عضو في الأمم المتحدة، والأعضاء فقط من يحق لهم الطلب من المحكمة للنظر في قضية نزاع، كما أن قبول المحكمة النظر في قضية ما يحتاج موافقة الخصم أو الطرف الثاني، وإسرائيل لن تقبل بذلك أبداً. جاءت القضية التي رفعتها جنوب أفريقا أمام محكمة العدل ضد إسرائيل في خضم حرب الإبادة التي تشنها في غزة، نهاية العام الماضي، وانضمت اليها بعد ذلك العديد من الدول، وهو تعتبر الأولى من نوعها ضد إسرائيل في المحكمة. وقبلت المحكمة النظر في اتهامات بالإبادة الجماعية موجه لإسرائيل، انطلاقا من اتهامات بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام ١٩٤٨، والتي انضمت اليها البلدان. لا تستطيع إسرائيل أن ترفض نظر المحكمة بالقضية، لأن المحكمة هي جهة النظر في الخلافات وفق تلك المعاهدة.
في يناير الماضي وضعت المحكمة ستة تدابير مؤقتة على إسرائيل لحماية المدنيين في غزة، وجاء ذلك بعد جلستي استماع عقدتهما المحكمة في ذات الشهر، حاولت إسرائيل خلال انعقادهما رد الدعوة من أساسها، بادعاء الدفاع عن النفس، وهو ما رفضته المحكمة. وفي الشهر التالي دعت المحكمة إسرائيل للالتزام بما جاء في معاهدة منع الإبادة، وقبل شهرين دعتها لعدم مواصلة هجومها على رفح. لاتزال إسرائيل ترتكب جرائمها في غزة، ولا تزال المحكمة تنظر في القضية، وجاء رأي المحكمة الاستشاري حول ممارسات الاحتلال في فلسطين بما فيها قطاع غزة ليضيف بعدا جديداً مهماً لتأخذه المحكمة بعين الاعتبار. وتبقى هذه القضية مجرد البداية، لتفتح الطريق واسعا أمام تحرك الدول لمحاسبة إسرائيل. ورغم أن المحكمة لا تمتلك جهاز تنفيذي، ويبقى مجلس الأمن الجهة المخولة لفرض عقوبات على المخالفين والممتنعين عن تنفيذ أحكام المحكمة، في ظل وجود فيتو أميركي معطل، تبقى قرارات الجمعية العامة، الطريق الأهم لمحاسبة ومعاقبة إسرائيل، والتي تتخذ بالإجماع، وتنفذ بالإرادة الذاتية والفردية للدول.
اعتبر ادعاء المحكمة الجنائية الدولية أنه بصرف النظر عن أي أهداف عسكرية تريد إسرائيل تحقيقها في غزة، فإن وسائلها لتحقيقها، والتي تسببت عمداً في الموت والمجاعة والمعاناة الكبيرة والإصابات الخطيرة لأجساد أو صحة السكان المدنيين، أعمال إجرامية. وطلب المدعي العام للمحكمة كريم خان في أيار الماضي من القضاة إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. إلا أن القضاة بعد ذلك منحوا الإذن لعشرات من الدول والمنظمات والأفراد لتقديم مذكرات قانونية، حتى السادس من شهرآب المقبل، وفتح ذلك الباب لإبطاء اتخاذ قرار استصدار مذكرات الاعتقال. تأتي تلك التطورات في ظل اتهامات للمحكمة الجنائية الدولية بالكيل بمكيالين، والتركيز على دول العالم غير الغربي، والتشكيك في دورها في تحقيق العدالة.
منذ بدء عمل المحكمة مطلع الألفية الحالية، ورغم مطالبات عديدة بفتح تحقيقات في ممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، لم تبادر المحكمة بالتحقيق في الأحداث في فلسطين. وبعد انضمام فلسطين للمحكمة في العام ٢٠١٥ لم تتمكن من المطالبة بفتح تحقيق حول تطور الأحداث في أراضيها المحتلة إلا في العام ٢٠١٨، ولم توافق المحكمة على ذلك إلا في العام ٢٠٢١. في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، قامت خمس دول (جنوب أفريقيا وبنجلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي)، ثم انضمت اليهم تشيلي والمكسيك مطلع العام الجاري، بالطلب رسمياً من المدعي العام للمحكمة بتوسيع التحقيق الخاص بفلسطين ليشمل جرائم الإبادة الجماعية في غزة. وفي انحياز من الصعب اخفائه، وصف كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في حديثه عن هجوم 7 أكتوبر: “إن الهجمات التي ارتكبت ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء تُعدّ من أخطر الجرائم الدولية في نظر القانون”، بينما اعتبر في تعليقه على العدوان على غزة: “إن المعارك التي تدور في المناطق المكتظة بالسكان والتي تسمح باختباء المقاتلين بين السكان المدنيين، معقّدة بطبيعتها”. قد يكون الوقت قد حان لهذه المحكمة أن تتشبث بدورها في تحقيق العدالة، وتبرز أهميتها في معاقبة وملاحقة المجرمين المرتكبين لابشع الجرائم التي ترتكب في عهدنا الحالي، خصوصاً بعد خروج الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، التي أشارت بوضوح باصابع الاتهام لمسؤولية الاحتلال بخلق بيئة قسرية في الأراضي المحتلة.
وجهت المحكمة في رأيها الاستشاري أصابع اتهام مباشرة للاحتلال، ودعت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ودول العالم لتحمل مسؤولياتها في تحقيق العدالة للفلسطينيين، ووقف الظلم التاريخيّ الواقع عليهم. وفي جميع الحالات سترفع المحكمة رأيها للجمعية العامة، الجهة التي أرسلت الطلب للمحكمة للنظر في القضية، ويمكن للجمعية العامة أن تتبنى ما جاء بذلك الرأي الاستشاري، والذي يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والا تتعرض لعقوبات دولية. يمكن للجمعية العامة أن تساهم اليوم بتحقيق العدالة للفلسطينيين، ممثله بمعظم دول العالم الحر، من خلال قرار يحمل توصيات رأي المحكمة، وذلك لسببين، عجز مجلس الأمن القيام بهذا الدور، في ظل تاريخه وتجربته الفاشلة في تأديه دوره بكبح جماح إسرائيل، المهددة لأمن منطقة بأكملها على مدار عقود، بسبب تعطيل قرارته بفعل فيتو الولايات المتحدة، داعمة إسرائيل وشريكتها في خلخلة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ولطبيعة العقوبات الدولية في مثل تلك المنظمات، التي تأتي بإرادة وطنية خالصة، فالدول هي من يحدد العقوبات وهي القادر على تنفيذها. إنه وفي ظل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي أشعلت شوراع دول العالم تعاطفاً مع الفلسطينيين وقضيتهم، وفي ظل تمادي الاحتلال في سياساته غير القانونية في الضفة الغربية، وبعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، التي أكد الاتحاد الأوروبي أنه يعكس موقفه أيضاً، يصبح واجباً على دول العالم، أن تلتحم الإرادة الشعبية فيها بالقرار السياسي الرسمي، وذلك بفرض عقوبات على دولة الاحتلال، هذا هو واجب المجتمع الدولي اليوم.
إرسال التعليق