زيارة بلينكن ونثر غبار التفاؤل الكاذب الولايات المتحدة «فنّانة» في إدارة المفاوضات العبثية، المصيبة أن ودورها الفعلي أصبح منح الوقت للسفاحين كي يواصلوا المجزرة
د. جمال زحالقة
انتهت زيارة أنتوني بلينكن لإسرائيل ومصر وقطر، دون إحراز تقدم فعلي في المسعى للتوصل إلى صفقة تبادل وهدنة في الحرب على غزة. ولعل التطوّر اللافت الوحيد في هذه الزيارة هو إعلان بلينكن، بعد لقائه نتنياهو بأن الأخير وافق على «مقترح التجسير» الأمريكي الجديد. وقد نثر هذا التصريح غبارا من الأوهام المتجددة والتفاؤل الكاذب، الذي سرعان ما انقشع لتعود أجواء التشاؤم الكثيف لسيادة المشهد.
لم يتراجع نتنياهو عن شروطه التعجيزية، التي طرحها لعرقلة التوصل إلى صفقة، والذي حدث أن الولايات المتحدة، هي التي تبنت جزءا كبيرا من شروطه وحوّلتها إلى مبادرة «جديدة» وطرحتها على نتنياهو فوافق عليها. وهكذا عادت مرة أخرى الحركة الدائرية ذاتها: نتنياهو يعرض موقفا، وتحاول الإدارة الأمريكية إقناعه بالعدول عنه فيرفض فترضخ هي لتعرضه ثانية عليه فيقبل به، ويجري تسويق قبول نتنياهو بالشروط التي فرضها هو كإنجاز «عظيم»، ويتولّى بلينكن مهمة الترويج لمرونة نتنياهو وموقفه الإيجابي، ويقوم بتضخيم «الإنجاز»، حتى يظن الكثيرون أننا أمام حدث دراماتيكي فعلا، وليس حركة إعلامية متعددة الأهداف والعناوين.
المقترح الأمريكي الجديد، الذي جرى طرحه على الوسيطين المصري والقطري وعلى إسرائيل وحماس، يتناقض مع الخطة التي طرحها الرئيس جو بايدن في خطاب في شهر مايو/أيار المنصرم، وتحوّلت إلى قرار رسمي لمجلس الأمن الدولي. ولعل المتغّير الوحيد في الأسابيع الأخيرة بشأن الصفقة هو التحوّل في الموقف الأمريكي، الذي ذهب إلى ما هو أبعد من الأسرلة، نحو تبنّي مواقف ينفرد بها نتنياهو، ولا تصر عليها المؤسسة الأمنية وغالبية النخب السياسية في إسرائيل.
يبدو أن الإدارة الأمريكية قد انتابها اليأس من إمكانية التأثير على نتنياهو، فلجأت إلى تقديم مقترح يرضيه، لتحاول الضغط على حركة حماس، عبر محاولة الضغط على مصر وقطر، لتضغطا بدورهما على حركة حماس لتقبل بالمقترح الأمريكي الجديد. بموازاة ذلك كثرت التسريبات الأمريكية والإسرائيلية الكاذبة بأن مصر وقطر توافقان على الشروط الجديدة، وبالأخص بقاء الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا. كل ما في الأمر أنّهما قبلتا، وعلى مضض، بنقل المقترح إلى قيادة حماس، مع التنويه بأنّ الأمر متروك لها بالقبول أو الرفض، مع الإحجام عن الضغط عليها، كما تريد الإدارة الأمريكية.
أبرزت المصادر الأمريكية أنّه جرى «الاتفاق بشكل واضح على جدول ومواقع انسحاب الجيش الإسرائيلي في غزة، وقد وافقت إسرائيل على ذلك». وما أسمته انسحابا هو في الواقع إعادة انتشار، ويشمل بقاء جنود إسرائيليين وتسيير دوريات خاصة لجيش الاحتلال في محور فيلادلفيا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن النخب صاحبة القرار في الدولة الصهيونية، تصر على إبقاء المحور تحت سيطرة إسرائيلية للمدى البعيد، فإن المقترح الأمريكي يتكشّف باعتباره أخطر بكثير مما قد يبدو عليه لأول وهلة. وإذا حصلت إسرائيل على «شرعية» مواصلة احتلاله، ولو مؤقّتا، فهي سوف تستغل ذلك لإدامة الاحتلال لمدة غير محدودة. وقد صرّح عدد من أقطاب «اليمين الأمني» الإسرائيلي بأنه من المحظور على إسرائيل «التنازل» عنه باعتباره موقعا استراتيجيا للأمن الإسرائيلي، على حد زعمهم. وتجمع النخب الإسرائيلية، بغض النظر عن مواقعها ومواقفها، بأن على إسرائيل أن تضمن سيطرة كاملة ومحكمة على كل حدود قطاع غزة، بما فيها محور فيلادلفيا.
النقاش في إسرائيل ليس حول أهمية السيطرة على محور فيلادلفيا، بل حول تكتيك وطرق التحكم بما يجري فيه وحوله. في الجلسة الأخيرة مع نتنياهو، طرح الوفد الإسرائيلي المفاوض وقادة الأجهزة الأمنية اقتراحا تنسحب بموجبه قوات الاحتلال من المحور بالاتفاق مع مصر، ونشر أنظمة رقابة الكترونية على طوله، وذلك في سياق تسهيل التوصل إلى صفقة تبادل وهدنة مؤقّتة. وأكدت القيادات الأمنية في الجلسة بأنه بالإمكان «احتلال المحور من جديد» في موعد لاحق. أثار هذا العرض حفيظة نتنياهو فقام بتوبيخ المسؤولين الأمنيين، مشددا على أن الضغوط الدولية لن تسمح لإسرائيل بالعودة إلى محور فيلادلفيا من جديد. وقد تلقى الموقف القابل بالانسحاب من المحور في إطار الصفقة، ضربة قاضية بعد أن وافقت الولايات المتحدة على موقف نتنياهو وتركت الأطراف المعارضة له بلا سند. لم يقبل نتنياهو علنا بالمقترح الأمريكي، لكنّه شكر بلينكن على ما أبداه من تفهم لما يسمى «الحاجات» الأمنية الإسرائيلية.
المعنى الحقيقي للمقترح الأمريكي الجديد، الذي ينص على بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلي في محور فيلادلفيا وفي مواقع أخرى في القطاع، هو مقايضة الهدنة بالاحتلال، واشتراط الموافقة الإسرائيلية على وقف إطلاق النار المؤقّت بالقبول الفلسطيني بإبقاء قوات الاحتلال في محور فيلادلفيا. يأتي ذلك بعد أن قدمت حركة حماس تنازلات صعبة وقاسية عندما وافقت في 2 يوليو/تموز على المبادرة الأمريكية بصيغتها الأصلية، والتي لا تشمل وقف الحرب، كما اشترطت الحركة على الدوام.
الولايات المتحدة، وعلى لسان بلينكن وبايدن، تلقي بالمسؤولية على حركة حماس، وهي التي قدمت التنازلات المريرة، وتبرّئ ساحة نتنياهو، الذي عمل طيلة الوقت على عرقلة الاتفاق، وطلع بشروط جديدة، كلما لاحت في الأفق إمكانية للتوصل إلى صيغة مقبولة ومعقولة. هي تقول إنها تسعى لجسر الهوة بين الأطراف، لكنّها في الواقع تساهم في زيادة التعنّت الإسرائيلي، وقبولها لشروط نتنياهو هو دليل واضح على ذلك.
لو حللنا الشروط التي يضعها نتنياهو للتوصّل إلى صفقة تبادل ووقف لإطلاق النار، نجد أنّها تعني في الواقع قبولا من حركة حماس بالانتحار، وهي لن تقبل بذلك بالطبع. وقد أشارت الحركة في بيانها إلى أن المقترح الأمريكي الجديد هو «انقلاب» على مبادرة بايدن وعلى قرار مجلس الأمن 2735 وعلى ما اتفق عليه في الثاني من يوليو/تموز. ويبدو أن المقترح الأمريكي، الذي حمله معه بلينكن في زيارته للمنطقة هذا الأسبوع، ولد ميتا، وهو عمليا رضوخ أمريكي لنتنياهو، الذي انتقل من حالة التصدي للضغوط الأمريكية إلى المناورة بالمبادرات الأمريكية واستغلالها واستغلال الدبلوماسية الأمريكية لكسب المزيد من الوقت لمواصلة حربه الإجرامية على غزة.
من الناحية الاستراتيجية، يخطط نتنياهو ومن حوله للعودة للاحتلال المباشر لقطاع غزة، وقد أعلن عشرات المرات أن إسرائيل تصر على سيطرة أمنية كاملة على القطاع لمدة غير محدودة. وعليه هو يرفض كل ما من شأنه أن يتنافى مع هذا التوجّه، والانسحاب الكامل من محور فيلادلفيا وممر «نيتساريم»، لا ينسجم مع مشروع احتلال غزة، ونتنياهو لا يقبل به، وأقصى ما قد يوافق عليه هو إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي في هذين الشريطين.
لقد أعلنت مصر أكثر من مرة أنها ترفض الاحتلال الإسرائيلي للشريط المتاخم لحدودها مع قطاع غزة. من هنا ليست حماس وحدها، التي تعارض بقاء جيش الاحتلال في محور فيلادلفيا، ومن المنطقي ومن المطلوب واللازم أن تتصدر مصر التصدي للتعنّت الإسرائيلي والتساهل الأمريكي بهذا الشأن. وينسجم ذلك مع متطلبات الأمن القومي المصري ومع دعم شعب فلسطين وحقوقه ومصالحه.
وقد نشر مؤخّرا أن الولايات المتحدة تقترح أن تتسلم السلطة الفلسطينية، ولو بشكل غير رسمي، مسؤولية إدارة معبر رفح. مبدئيا لا مشكلة في ذلك، بشرط واحد وهو أن يكون ذلك بالتنسيق مع حركة حماس، التي تتصدى لحرب الإبادة الإسرائيلية، والتي لها القول الفصل فلسطينيا في كل ما له علاقة بإدارة الأمور وتسييرها في قطاع غزة. على السلطة أن تأخذ دورا أكبر وأوسع في قطاع غزة، لكن عليها ألا تخطو خطوة واحدة في كل ما يخص غزة إلا بالتنسيق مع حركة حماس.
قبل أن يعتلي الطائرة عائدا إلى الولايات المتحدة، قال وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن للصحافيين: «يجب أن يتم ذلك خلال أيام، ونحن سنعمل كل ما هو ممكن لاجتياز خط النهاية». هو ليس غبيا، ويعرف أن ذلك لن يتم خلال «أيام»، لكنّه يأمل أن يؤدّي نثر غبار التفاؤل إلى حجب الرؤية عن حقيقة أن إسرائيل ماضية في حربها، والولايات المتحدة لا تنجح في وقفها عند حدّها، ليس لأنّها لا تستطيع، بل لأنّها لا تريد الضغط عليها بجدّية.
الولايات المتحدة «فنّانة» في إدارة المفاوضات العبثية بشأن القضية الفلسطينية وفعلت ذلك لعقود. العودة إليها الآن أخطر بكثير من الماضي، لأنّ دورها الفعلي أصبح منح الوقت للسفاحين كي يواصلوا المجزرة.
إرسال التعليق