حرب حقيقية في الضفة: نتنياهو يستكمل حروبه
د. سنية الحسيني
تصعيد عنيف يمارسه الاحتلال في الضفة، وقد يكون للتطورات المفتوحة على الجبهات الأخرى تأثيراً على هذا التصعيد، مع الوضع بعين الإعتبار أن الضفة الغربية، الخاضعة لسلطة الاحتلال الفعلية وسيطرته الأمنية يحمل الاعتداء عليها اعتباراً خاصاً، يفرض على القوة القائمة حماية السكان. تماماً كما تتعرض غزة منذ أكثر من عشرة شهور لهجمات مدمرة على شعب محاصر ممنوع من الحركة، ويحرم من أبسط الحقوق الإنسانية اللازمة لاستمرار حياته، وسط صمت دولي متواطئ. إن دعم الولايات المتحدة وحلفائها المفتوح لإسرائيل وصمت العالم أمام المجازر المقترفه في غزة يفتح لنا مجال سوداوية التوقعات في الضفة أيضاً. استشهد أمس ١١ فلسطيني في الضفة الغربية بعد هجمات طالت مناطق متفرقة فيها تركز جلها في الشمال، وفي سياسة غير معهودة في الضفة الغربية أنذر الاحتلال سكان مخيم نور شمس بالخروج من مخيمهم تمهيداً لقصفه، وكان قد بدأ سياسة قصف جوي لاهداف فلسطينية العام الماضي. إن تلك الأحداث تنسجم مع تصريحات سابقة تحدثت قبل أيام حول نية الاحتلال شن هجوم من نوع مختلف عن المتعارف عليه في الضفة الغربية، ويبدو أننا نشهد إرهاصاته.
جاء ذلك التحرك باتجاه الضفة الغربية في ظل ثلاثة عوامل، الأول يتعلق بنتنياهو وحكومته والتطلعات بالبقاء في الحكم، وهو للأمر الذي يتطلب بقاء الوضع الإسرائيلي في حالة أزمة، بينما يرتبط العامل الثاني بتطورات الهجوم على غزة والذي لم يحقق أهدافه بالقضاء على حركة حماس، الصامدة في الميدان، عدم اخراج المحتجزين، وبقاء الوضع ضمن حدود حالة من الاستنزاف في غزة، ويتعلق العامل الثالث برد حزب الله الأخير، والذي أكد على خلاصة تفيد بصعوبة فكرة الذهاب لحرب مع لبنان الآن في ظل الظروف الحالية. في إطار هذه العوامل الثلاث وتفاعلاتها، يبقى اشعال نتنياهو لجبهة الضفة الغربية الآن أقل الأثمان تكلفة لضمان استمرار حكومته، وذلك بتنفيذ خطط موضوعة سلفاً. وهذا من شأنه أن يعني أننا أمام جبهة مفتوحة وممتدة زمانياً، أي ليست أحداث عابرة متفرقة، بل هي خطة لضبط الأوضاع ورسم الحدود في الضفة الغربية.
لعل أهم التطورات التي جدت على الساحة اليوم في ظل معارك نتنياهو المفتوحة، رد حزب الله الأخير قبل أيام، والذي قد تكون نتائجه محفزاً لاضطرار نتنياهو لفتح جبهة الضفة. ليس من الخفي أن إيران وحزب الله عملا بكل طاقاتهما لمنع انفجار حرب إقليمية واسعة مع الاحتلال، تجنباً لأثمانها الباهظة، وتعطيلاً لأهداف نتنياهو وتوجهاته. أكد هجوم حزب الله قبل أيام على صعوبة خوض الاحتلال عملياً لحرب عسكرية واسعة ومباشرة مع حزب الله، رغم توجه ورغبة حكومة نتنياهو اليمينية لذلك، في ظل تعقدات المشهد الميداني وتحذيرات الحليف الأميركي ونصيحة حلفاء غربيين.
وفي ظل عدم رغبة حزب الله وإيران بخوض هذه الحرب مع الكيان المحتل وتوسيع جبهة القتال، أرسل حزب الله عدد من الرسائل من خلال رده الذي جاء قبل أيام. تعمد حزب الله تأخير رده لمدة شهر تقريبًا، في ظل ترتيب حدود الرد، وإعطاء فرصة لمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة التي أطلقتها الولايات المتحدة في أعقاب حادث اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية لامتصاص فرصة نشوب حرب إنتقامية، ليثبت حزب الله أن أولوياته وقف الحرب على غزة، وأن من شأن وقف العدوان على القطاع إطفاء جميع الجبهات المشتعلة الأخرى.
بدأ رد حزب الله بعد وقت قصير من قيام طيران الاحتلال بضرب مواقع عسكرية لحزب الله، بما اعتبره “ضربة استباقية” لإحباط هجوم أكبر لحزب الله. ورغم تلك الضربة الاستباقية تمكن حزب الله من تنفيذ هجومه، الذي وصفه بـ “المحدود” وفق المخطط له. وجميعنا يعلم أن حزب الله أرد أن يقدم رداً نوعياً متوازناً لا ينتهي بحرب إقليمية أوسع لا يريدها، ولا يريد استهداف المدنيين، وفي نفس الوقت أراد رد قوي، يتناسب مع جريمة اغتيال فؤاد شكر. إن إيعاز نتنياهو للوزراء والنواب والمسؤولين بعدم الإدلاء بتصريحات إعلامية في أعقاب رد حزب الله، وتوجيه إنتقادات لاذعة لنتنياهو وحكومة الاحتلال، وعدم رغبة نتنياهو في أعقاب رد حزب الله بالتصعيد يجعل المعطيات التي قدمها نصر الله لهجوم حزبه أقرب للتصديق.
ووفقاً للأمين العام لحزب الله، فإن الرد تضمن إطلاق 340 صاروخاً على منشآت عسكرية في شمال فلسطين، وتم استهداف منشأتين استراتيجيتين في العمق، وهما مقر الوحدة 8200، وهي جهاز استخباراتي تابع لجيش الاحتلال في موقع بالقرب من تل أبيب، والتي يعتقد أنها المسؤولة إستخباراتياً عن عملية الإغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما تم استهداف قاعدة جوية تدير أنظمة الدفاع الصاروخي تقع في شمال تل أبيب. ويعتقد أن يوسي سارييل قائد وحدة 8200 كان المستهدف من العملية، وهو الذي يقود واحدة من أقوى وكالات المراقبة في العالم. وتمنع الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر أي معلومات حول الموضوع. وإذا صحت تلك التسريبات فان ذلك يعني باختصار أن الحزب نجح في الوصول إلى تل أبيت واغتيال قائد عسكري مهم، في تأكيد على قاعدة السن بالسن وتوازن الردع، وقدرات الحزب الاستخباراتية العالية.
وفي ظل رد محسوب بعناية وجه الحزب نيرانه بعيداً عن المدنيين، في رسالة أراد فيها إبعاد المدنيين عن معادلة الصراع. واعتبر أن وضع ذلك المعطى في معادلة الردع من قبل حزب الله اضافة مهمة على المعادلة، بعد أن أثبت العدو استهانته الفاضحة بحياة المدنيين، في الماضي وحاضر غزة. إن ذلك المعطى لهو رسالة للإسرائيليين قبل أي جهة أخرى، وتعني أن انضباط هجمات جيش الاحتلال تجاه المدنيين اللبنانيين، يعني حماية تلقائية للمدنيين في الشارع الإسرائيلي. فسعى نصر الله في خطابه في الخامس والعشرين من آب الماضي في أعقاب رد الحزب على اغتيال شكر إلى طمأنة المستمعين إلى أن حرباً أكبر لن تحدث وأن الناس قادرون على العودة إلى حياتهم الطبيعية، وقد تكون هذه الرسالة موجهة للمدنيين اللبنانيين وغير اللبنانين أيضاً.
وجاء رد حزب الله مستقلاً عن باقي أطراف التحالف الأخرى الأمر الذي يفتح المجال لهجمات تالية ويعني أن حالة الانتظار والترقب وعدم اليقين لدى حكومة الاحتلال لاتزال مفتوحة. وجاء تأكيد نصر الله بأن نتائج رد الحزب خاضعة للتقييم، للحكم بمدى كفايتها ليصب في ذات الاتجاه. في رده على اغتيال شكر، يضع نصر الله مرة أخرى قواعد اللعبة بعد أن أعلن إنتهاء الهجوم أو الرد، وذلك بالاكتفاء بإطلاق أكثر من 340 قذيفة صاروخية وطائرة مسيرة. في الأسبوعين اللذين أعقبا جريمة اغتيال شكر في قلب العاصمة بيروت، واصل حزب الله هجماته اليومية في الشمال، ملتزماً بالمعادلات التي وضعها خلال الأشهر العشرة الماضية، والتي أرساها بعد عدوان الاحتلال على غزة، بادخاله الجبهة الشمالية لفلسطين كجبهة مساندة لغزة. وقبل ٧ أكتوبر حافظ حزب الله على معادلة ردع متوازن مع الاحتلال.
طالما واجهت القوات الوطنية المسلحة جيوشاً تقليدية جرارة في الماضي وانتصروا عليها، مهما بلغت قوة تلك الجيوش التقليدية، وبساطة المواجهة الوطنية، وكثيراً ما حسمت النتائج لصالح تلك القوى الوطنية، ولعل التجربة الأميركية في فيتنام والعراق وأفغانستان خير مثال على ذلك. اليوم تدخل المواجهة بين تلك القوى الوطنية والقوى المحتلة أو الغازية في منطقتنا مرحلة متطورة تخطت الحدود الماضية في ظل التطور التكنولوجي الهائل ويسر الوصول اليه، فما بين الصواريخ الموجهة القصيرة المدى والمتوسطة والطويلة، والطائرات بدون طيار، والهجمات الإلكترونية والعمل من داخل الأنفاق تحت الأرض، باتت المواجهة أشد تعقيداً، وغير مضمونة النتائج. فحرب مع غزة أو لبنان وحتى في الضفة الغربية لا تحسم بالضرورة بالقوة العسكرية التقليدية مع أصحاب الأرض. إن الضفة الغربية تعد خاصرة رخوة لكيان الاحتلال، وليست وحدها فهناك مناطق أخرى تشبهها، وعلى الاحتلال أن يعي أن لكل فعل رد فعل.
إرسال التعليق