عام مضى… وحرب الإبادة والتهجير لا تنتهي حين يستعمل العرب والمسلمون ومعهم أحرار العالم وزنهم، يمكن إيقاف إسرائيل ومعاقبتها ومعاقبة قياداتها، التي ترتكب جريمة الإبادة الجماعية دون أن يرتجف لها جفن
د. جمال زحالقة
مر عام على معركة «طوفان الأقصى»، التي بدأت بهجوم مباغت لقوات حماس على مواقع عسكرية وبلدات حدودية إسرائيلية، في المنطقة المسماة «غلاف غزة». ومع اختلاف التقييمات والمواقف حول الكثير من ملابسات وحيثيات الحدث، إلّا ان هناك إجماع شامل بأن الهجوم شكل صدمة قوية لإسرائيل جيشا وحكومة ومجتمعا. في ذلك اليوم انهارت في إسرائيل، ولو إلى حين، مرتكزات الأمن القومي، التي لم تصمد في الامتحان، وانكسر الغرور وانهارت الثقة بالذات وارتطم المحاصِر بالمحاصَر الذي حطّم جدران الحصار.
لقد تحطّمت ركيزة الردع، التي تشكّل الخط الأمني الأول، بحكم أن حركة حماس شنت غارة ساحقة على إسرائيل، وثبت أنّها ليست بوارد الردع، كما ظن القادة العسكريون والسياسيون في الدولة الصهيونية. لقد كان الردع هو الركيزة الأساسية في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وجرى الترويج بأن «أعداء إسرائيل» مرتدعون، وبأنهم يخافون منها ويخشون الدخول في مواجهة معها. وتبين في السابع من أكتوبر أنّ تلك كانت حسابات خاطئة وخاسرة تنبع من الاستهتار بالآخر «المردوع» ومن الزهو بالذات الرادعة.
بموجب استراتيجية الأمن الإسرائيلية، فإنه في حال فشل الردع، وتحرك «العدو» للقيام بهجوم فإن نظام الإنذار المبكّر، الذي يقوم بالرصد والرقابة والتتبع بوسائل إلكترونية وبشرية، هو المسؤول عن الكشف عن التحضيرات المسبقة، وتحذير القيادة، حتى تكون جاهزة للتصدي. لقد فشلت المخابرات الإسرائيلية، وبالأخص شعبة المخابرات العسكرية وجهازي الشاباك والموساد، في اكتشاف الهجوم إلا بعد أن بدأ فعلا. وشكل هذا الإخفاق ضربة مدوية هزت أركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية برمتها، خاصة أنها اعتمدت بشكل أعمى على تقييمات وتقديرات المخابرات الإسرائيلية «المتطورة»، التي تدعي أنها الأكثر تطورا في العالم، وبأنها تحظى بتفوق نوعي وتكنولوجي على محيطها، وعلى ما هو أبعد من محيطها المباشر.
لقد تباهت النخبة العسكرية الإسرائيلية بأنه حتى لو لم يكن لا ردع ولا إنذار، فإن الجيش قادر على الدفاع عن الحدود، وعلى إحباط أي هجوم. وكانت المفاجأة بتهاوي المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، بدءا بالسياج الإلكتروني «المنيع»، الذي كلّف نصبه المليارات، ومرورا بالفرق العسكرية المرابطة على الحدود، وصولا إلى «فوضى إدارة المعركة وعدم دخول قوات التعزير البري والجوي والبحري، إلا بعد ساعات طويلة من بدء الحدث. وتلقت إسرائيل ضربات أخرى لا تقل وزنا عن الإخفاق العسكري – الأمني، فقد ارتطمت بعد السابع من أكتوبر بما لم تواجهه في تاريخها وهو نزوح ما يقارب 200 ألف مستوطن من المناطق الحدودية المتاخمة لغزة وللبنان. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكيان الإسرائيلي هو مشروع استعمار استيطاني، وأن الاستيطان هو جوهره، نستطيع أن نقيّم بموضوعية هول الحدث في الواقع وفي الوعي الصهيونيين. وكان واضحا من البداية أن المنطلق الأول للحملة العسكرية الإسرائيلية هو «إعادة المستوطنين إلى بيوتهم»، وأن إسرائيل ستواصل الحرب إلى حين تحقيق هذا الهدف كحد أدنى. فالاستيطان والمستوطنين هما بوصلة الحرب في بداياتها وفي مآلاتها. إضافة لذلك، اهتزت أركان الفكرة الصهيونية، على الأقل في البداية، من أن «المكان الآمن لليهود» ليس آمنا، وأن إسرائيل لا توفّر لهم الأمن الشخصي والجماعي، كما كان ادعاؤها المركزي منذ تأسيس «الصهيونية اليهودية». وانكشفت حقيقة، لم تحظ بالاهتمام الكافي، وهي أن إسرائيل أخطر موقع لليهود في العالم. ولأنها خشيت من الهجرة بسبب الانهيارات الأمنية والاقتصادية، لجأت ماكينة الدعاية الإسرائيلية إلى ترويج ما سمته «تصاعد اللاسامية في دول العالم كافة»، وذلك بهدف ردع من يفكّر بالهجرة وثنيه عن التنفيذ.
طال تأثير صدمة السابع من أكتوبر كل مناحي الحياة في إسرائيل، فهي وعلى طول السنة كانت الموضوع المركزي خلال السنة، وصدر أكثر من مئة كتاب عنها، وانجر المجتمع الإسرائيلي بأسره نحو المزيد من التطرف والعنصرية والفاشية. ومع الإقرار بالصدمة والضربة، تذهب غالبية المحللين وصنّاع الرأي العام في إسرائيل إلى القول بأن معظم الآثار ستكون عابرة وأن «الجريح» الإسرائيلي سيشفى مع تلقيه للعلاج، لكن من المؤكّد أنه لن يعود إلى ما كان عليه وبدأت التغييرات العميقة تفعل فعلها. فقد انتقل مركز ثقل مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، نظريا وعمليا، من الردع إلى المنع، ورسمت الخطط واتخذت القرارات لزيادة حجم الجيش ولتقوية القوات البرية ولإجراء تغيير جذري للتصورات والمسلمات السائدة في أجهزة الاستشعار والمخابرات، والأهم من كل هذا أن الدولة الصهيونية أضافت استراتيجية الإبادة الجماعية إلى صندوق أدواتها، الذي احتوى سابقا التطهير العرقي، والسطو على الأرض والممتلكات، وزرع المستوطنات، والمجازر والقتل والتدمير والعقوبات الجماعية والموبقات الإجرامية المعهودة.
حرب الإبادة
هدف القصف الإسرائيلي على غزة بعد السابع من أكتوبر، إلى دفع الناس إلى الهجرة، وبعد الفشل في ذلك، واصلت إسرائيل عدوانها بوحشية متزايدة وسرعان ما حولت الحرب إلى حرب إبادة جماعية. هكذا نفّذت إسرائيل «الجينوسايد» بعد أن أخفقت في التطهير العرقي والترانسفير خارج القطاع وبالأخص إلى سيناء. ورغم الأساليب الإجرامية الوحشية والفظيعة، فشلت إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب الرسمية المعلنة، وكتب الجنرال يسرائيل زيف هذا الأسبوع على موقع القناة 12 الإسرائيلية: «لم تتحقق إلى الآن أي من أهداف الحرب، فسلطة حماس ما زالت قائمة وقوتها العسكرية التي تفكك بدأت تتعافى، المختطفون لم يعودوا، ورغم الإنجازات في لبنان فإن عودة المستوطنين ليست قريبة. أما من الناحية السياسية فإسرائيل معزولة دوليا وتواجه خطر العقوبات.. وهي لم تحقق أي إنجاز سياسي إلى الآن». صحيح أن إسرائيل لم تحقق أهداف الحرب الرسمية المعلنة بالكامل، إلا أنها بالإضافة إلى إنجازات أمنية وازنة في استهدافها للمقاومة، حقّقت الكثير من مآربها في تدمير البنى التحتية، وفي قتل وتهجير الملايين من أبناء وبنات الشعبين الفلسطيني واللبناني، وهي تسعى للمزيد بهدف تأليب الناس على المقاومة، وتستعمل أسلوب الإرهاب المعهود: ممارسة العنف الوحشي ضد المدنيين العزّل لتحقيق أغراض سياسية. يمكن تأطير حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة ضمن ثلاثة سياقات: الأول هو جعل أهالي غزة يدفعون ثمنا غاليا ليقفوا ضد المقاومة، ولأنّها تعرف أن المقاومة لم تأت من المريخ، بل انبثقت من المجتمع الفلسطيني وهي جزء لا يتجزّأ منه، توصلت إلى استنتاج «عقلاني» بإن فك الارتباط بين الناس والمقاومة يتطلب تدفيعهم ثمنا لا يطاق ولا يحتمل علّهم يثورون وينقلبون على المقاومين. ويأتي السياق الثاني ضمن استراتيجية «الجنون المطلق» التي يطبقها جيش الاحتلال بدم بارد، ومرادها إقناع القاصي والداني بأن إسرائيل ترد بجنون على كل من يستهدفها أو قد يستهدفها وكأنها تقول: «نحن مجانين ولا نعرف النسبية، فإن هدمتم لنا بيتا نهدم ألف بيت، وإن قتلتم لنا شخصا سنظل نقتلكم بلا توقّف». وهكذا تسعى إسرائيل إلى بناء الردع بالفظاعة وبالجنون متجاوزة كل أساليب الردع التقليدية، حتى لو كان ذلك بشن حرب الإبادة الجماعية. أما ثالثا، فإن من أهم أهداف مجازر الإبادة الجماعية، هو «تشجيع» الناس على الهجرة، عبر الإكثار من مشاهد التدمير والقتل والاقتلاع، وعبر جعل غزة «منطقة غير صالحة لحياة البشر». وإذا تعذّر التهجير من القطاع فليكن داخل القطاع، وليبدأ تمهيد الطريق إلى خارج غزة، والتطهير العرقي في غزة هو مشروع تزرع إسرائيل بذوره وتحضر له بانتظار الفرصة.
الحرب لا تنتهي
تواصل إسرائيل حربها العدوانية وتحافظ على طابعها وسماتها، وهي تستمر فيها بقوّة الدفع ولا أحد يوقفها أو يفرمل اندفاعها، وكأنّها تعمل وفق قانون نيوتن الأول «الجسم المتحرك سيبقى متحركا، ما لم تأت قوة أخرى لتوقفه» (القانون أصلا للعبقري ابن سينا واورده في كتابه الإشارات والتنبيهات). السؤال ما هي القوّة أو القوى الأخرى التي يمكنها أن توقف انفلات إسرائيل الدموي الفظيع وإطلاقها للنار في كل الاتجاهات ولعبها لدور الشرير القوي المدجج بالسلاح الأمريكي.
على الرغم من الظروف الحالكة نتمسك بالأمل، فليس لنا ترف اليأس والإحباط، وعلينا أن نواصل المطالبة والمناشدة وحتى الرجاء: وحدة فلسطينية فورية، تحرك عربي شامل وفعّال ومساهمة إسلامية جامعة في الذود عن الشعبين الفلسطيني واللبناني، وبناء قوة إقليمية عربية-إيرانية- تركية قادرة على قلب كل الموازين. وحين يستعمل العرب والمسلمون ومعهم أحرار العالم وزنهم، يمكن إيقاف إسرائيل وحتى معاقبتها ومعاقبة قياداتها، التي ترتكب جريمة الإبادة الجماعية دون أن يرتجف لها جفن.
إرسال التعليق