ما بين المنافي والوطن .. تضحيات وحنينٌ وذكرياتٌ وأوجاع..
بسم الله الرحمن الرحيم
ما بين المنافي والوطن .. تضحيات وحنينٌ وذكرياتٌ وأوجاع..
اللواء د. محمد أبو سمره ـ رئيس تيار الاستقلال الفلسطيني .
قيادي ومؤرخ ومفكر فلسطيني، ورئيس مركز القدس للدراسات والإعلام والنشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
اثنان وثلاثون عامًا ونصف مرَّت علينا منذ حملتنا طائرات العدو الصهيوني المروحية العسكرية من سجن غزة المركزي ، لتُلقي بنا على بوابة معبر زمريَّا الحدودي، تلك البوابة التي كانت تفصل حينها بين الجزء المحتل من الجنوب اللبناني، والأراضي المحررة منه، وعلى بُعد مسافةٍ قريبة من القرية اللبنانية التي أصبحت أكثر شهرةً من كثيرٍ من المدن الكبرى وعواصم العديد من دول العالم ( قرية مرج الزهور).
في ذلك اليوم الإثنين 11/4/1988 تم إبعادي من غزة إلى لبنان عقب قضائي خمسة أشهر من اعتقالي الأخير الذي تم بتاريخ 28/12/1987، على ذمة الإبعاد ضمن أول دفعة للمبعدين من فلسطين المحتلة عقب تفجُّر الانتفاضة الأولى، وتنفيذًا لقرار وزير الحرب الصهيوني إسحاق رابين بالإبعاد بصفةٍ دائمة خارج فلسطين المحتلة، لدوري في تفجير وقيادة الانتفاضة الأولى، ولدوري الرئيس ومشاركتي في تأسيس وقيادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتيار الإسلامي الثوري في فلسطين، وقيادة الحركة والكتلة الطلابية والنضال الطلابي ضد الاحتلال في جامعات ومعاهد فلسطين المحتلة، وكذلك بسبب علاقتي الوثيقة وتواصلي مع القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني والثورة الفلسطينية المجيدة وعلى رأسهم الزعيم الخالد الشهيد القائد المؤسس ياسر عرفات رحمه الله، وأمير الشهداء القائد الكبير أبو جهاد خليل الوزير رحمه الله، والقائد التاريخي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الشهيد أبو المنذر صبحي أبو كرش رحمه الله، وفضيلة الشيخ القائد والزعيم المؤسس الشيخ أسعد بيوض التميمي رحمه الله تعالى ، والعديد من القادة الكبار الآخرين من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح ومن قادتها في كافة المستويات، وكذلك العديد من قادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وشملت لائحة الاتهام الصهيونية عشرات التهم النضالية والثورية الأخرى ، والتي أدت حسب لائحة اتهام النيابة العسكرية الصهيونية ضدي ، إلى اتخاذ وزير الحرب الصهيوني إسحاق رابين القرار بإبعادي ونفي بشكلٍ دائم خارج فلسطين المحتلة …
وكان ذلك الاعتقال الأخير في سجون العدو من أجل الإبعاد والنفي ، هو الاعتقال للمرة العشرين التي أُعتقل فيها في سجون العدو ، وجاء بعد سبعة أشهر فقط من إطلاق سراحي من الاعتقال الذي سبقه ، حيث خرجت بعد قضائي مدة محكوميتي بتاريخ 16/5/1987، وهو اليوم السابق لنجاح مجموعة مجاهدة من أصدقائي وأخوتي وأحبابي بالهروب من سجن غزة المركزي في واحدةٍ من أشهر وأنجح عمليات الهروب من سجون ومعتقلات العدو الصهيوني، ليصل مجموع ما أمضيته في تلك السجون الصهيونية اللعينة قرابة العشرة أعوام، كنتُ خلالها أُحاكم بمددٍ مختلفة بالسجن نتيجةً لاعترافات الآخرين، والقاصي والداني يعرف جيدًا أن تلك السجون اللعينة ووسائل التعذيب البشعة لم تتمكن من كسر إراداتي، وبحمد الله لم يُفلح المحققون والجلاَّدون الصهاينة يومًا في انتزاع اعتراف مني على أي شيء، ولا في هزيمتي أو كسر إرادتي الصلبة، وعند كل مرةٍ خرجت فيها من معتقلات العدو الصهيوني، كنتُ بحمدلله وكرمه ولطفه وتوفيقه، أكثر قوةً وصلابةً وعنادًا وإصرارًا وثباتًا ..
ولذلك فقد كان من بين مقدمة وديباجة لائحة الاتهام التي بموجبها تم تنفيذ الإبعاد القسري التي زادت بنودها عن الأربعين بندًا : ( لقد تقرر إبعاد “فلان ” عن البلاد بصفةٍ دائمةٍ ، لأنَّ السجن لم يعد رادعًا له ) ..
وبقدر ما كان الإبعاد عن فلسطين الحبيبة مؤلمًا وقاسيًا، لكنَّه أتاح لي التعرف المباشر والتماس مع الكثير من كبار قادة الثورة الفلسطينية وتوطيد علاقتي القديمة / الجديدة بهم ، وعلى رأسهم الزعيم الفلسطيني الخالد الشهيد أبو عمار ياسر عرفات رحمه الله ، والشهيد القائد أبو إياد صلاح خلف رحمه الله ، والشهيد القائد أبو المنذر صبحي أبو كرش رحمه الله ، والشهيد القائد أبوعلي شاهين رحمه الله ( الذي كانت تربطنا به علاقة خاصة متينة بدأت داخل سجون العدو منذ منتصف السبعينيات، واستمرت وتوطدت إثر إطلاق سراحه عام1982، ثم إبعاده عام1985، وإبعادنا عام 1988، ثم عودتنا جميعًا للوطن ، وبقيت متينةً حتى رحيله المفجع ومشاركتنا في تشييع جثمانه الطاهر في رفح عام يوم 28/5/2013)، وفخامة السيد الرئيس محمود عباس حفظه الله، وغالبية قادة حركة فتح وأعضاء لجنتها المركزية ، وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، والعديد غيرهم من قادة ومسؤولي كافة الفصائل الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية، والقوى والأحزاب اللبنانية والعربية والإسلامية، والعديد من رموز وقادة وكوادر حركات التحرر في الكثير من دول العالم، والعديد من الرؤساء وكبار المسؤولين والبرلمانيين العرب ..
وكانت فاجعتنا الكبري ، التي لم تكن تقل عن فاجعة إبعادنا عن وطننا الحبيب ، اغتيال العدو الصهيوني بعد خمسة أيام من إبعادنا لأمير الشهداء خليل الوزير رحمه الله، والذي ربطتنا به علاقة وطيدة خلال سنوات نضالنا داخل الوطن المحتل ، يوم 16/4/1988 ..
ومنذ الإبعاد القسري عن الوطن الحبيب، وحتى العودة إليه بعد عشرة أعوام من المنفى القسري، والمكوث الجبري أثناء محاولة العودة عامًا كاملًا في الجانب المصري من معبر رفح البري، بسبب منع سلطات الاحتلال لعودتي ، ثم نجاح الزعيم الفلسطيني الخالد الشهيد ياسر عرفات رحمه الله، وبدعم وضغط من القيادة المصرية في انتزاع الموافقة على عودتي، إلى مسقط رأسي في مدينة غزة الحبيبة، هناك الكثير … الكثير مما يمكن قوله وكتابته وتوثيقه وتأريخية، فقد كانت حقبةً تاريخية مهمة مازالت أثارها حيَّةً، ومثلما كانت مليئةً بالإنجازات والنجاحات والتضحيات والعطاء والبطولات والأسرار، فقد كانت أيضًا مليئة بالخيبات والمفاجآت والأحزان والدموع والعذابات والآلام والأوجاع والصدمات التي لا تحتملها الجبال..!!..
وفيما لو أردتُ التأريخ والكتابة عن الإثنين وثلاثين عامًا منذُ الإبعاد القسري عن فلسطين الحبيبة وحتى الآن، وما قبلها أيضاً، ربما لن تكفيني مئات المجلدات والكتب والمقالات للكتابة والتوثيق والتأريخ، وتسجيل شهادتي للتاريخ والأجيال المقبلة..
ــ ولكن السؤال : هل حان وقت الكتابة ؟ ، أم لابد من الانتظار لمزيدٍ من الوقت، حتى تكتمل ملامح المشهد والصورة، وتصل المرحلة والحقبة إلى نهاياتها المحتومة ؟!..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
البريد الإليكتروني [email protected]
إرسال التعليق