رحلةٌ في سفينةِ الفنِّ الى فضاءِ الإبداع والغرابة، أغنية ( رجل الكواكب) مثالاً:

رحلةٌ في سفينةِ الفنِّ الى فضاءِ الإبداع والغرابة، أغنية ( رجل الكواكب) مثالاً:


تحسين عباس
كثيراً ما نقرأ أنَّ الأشتغالاتِ الإبداعيةَ من نصوصٍ أدبيةٍ وأعمالٍ فنّيةٍ، تحتاجُ حتى تتوغلَ في الديمومة الى عاملِ الصدقِ الذي ينمو في أرضِ الواقع، وتغذيه العاطفةُ والمعرفةُ في كنْهِ الأحوال ، ففي ظلِّ ما حدثَ للإنسانية وما يحدثُ يرى أحدُنا أنَّ المأساةَ مشتركةٌ لا تُميّزُ المنكوبين باللون والعنصر والدين ، فالشعارُ الذي يحكمُ هذه الأرض هو الــ (أنا) في جميع المجالاتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية فهو توسّعٌ على حسابِ العزّةِ والكرامةِ والحريةِ التي يجبُ أن ينعَمَ بها الإنسانُ في هذا الكون ، فلغةُ الغابةِ هي السائدةُ في كلِّ المسالكِ التي مرَّ بها آدم ؛ هذا الكائنُ العجيبُ الذي تكونُ أيامُ سُقْمهِ أكثرَ من أيّام سَلامتِهِ !!
وهنا أعتبرُ التصدي لإحياءِ الثالوث المقدس (العزة،الكرامة،الحرية) واجبٌ على من يحملونَ الرسالةَ في مواهبِهم الفنيةِ بعد أن انْتشرَ الزيفُ والإلتفافُ على الحقائق في أنحاءِ المعمورة، وكوني ناقداً وجدتُ القلائلَ من الفنانين الذين حاولوا تضميدَ هذه الجروح في جسد الانسانية ،فوقفتُ عند (رجل الكواكب) لــ لفنان الرائد رعد بركات فهي من تنغيمهِ وتوزيعهِ ومونتاجِهِ ومن كلمات الشاعر اليمني القدير عبد القادر صبري وقد جاء نصُ الأغنيةِ على البحرِ المتقارب ( فعولن فعولن فعولن) في لون قصيدة التفعيلة.
الفكرة :
تبلورتْ فكرةُ النصِ في مغادرةِ هذا الكوكب الى كواكبَ أخرى هرباً من تكرار الاضطهادِ والاستعبادِ والقتلِ والتجويع وكلّها تعملُ على الإذلال والإهانة والتقييد والتي هي بالضدّ من ( العزة والكرامة والحرية)، فنجدُ فكرةَ المُنقذِ مُتخفِّيةً بين أركان الموضوع وهي محاولةٌ للخلاصِ بطريقةٍ حديثةٍ من طوفان الظُلم والجور .
” ورودٌ وشمسٌ وماءٌ وطينْ رجالاً نساءً ” ـ حقول الأماني ـ افتقاد الحياة الطبيعية ـ اضطهاد
” غثاءً تَرَاكَمَ في (نجزاكي)،وسَالَ بدجلةَ قَيئاً ودمْ.” ـــ نتاج الظلم الجماعي
” صحارى الخيولِ تُخَبِّئُ سمّاً وبحراً تَجرَّع ذُلاً وهَمّا.” ــــ نتاج الظلم الجماعي
” وَلَكِن رَأونِي أُلَطِّخُ وجهِي بلونِ الأَلَم ” ألطخُ وجهي ـ ألطمُ حظي ـ اضطهاد
بلون الألم ـ اشارة للدم ـ القتل والدمار ـ نتاج الظلم والاستبداد
” سأجمعُ كلَّ خيوطِ الطفولةِ كلَّ المشانِقِ كُلَّ الحبال” ـ الأماني المحنَّطة ـ القتل والدمارـ اعدامُ البراءة والعدالة ـ نتاج الظلم والاستبداد.
” صُكوكُ الرجوعِ سأَذكرُ فيها تواريخ موتي بكل المهالكْ ” ـ مظلومية العيش ـ اضطهاد ـ نتاج الظلم والاستبداد.
” وريداً وريداً سَأجمعُ نَفسِي وأصنعُ مِنهَا بقايا شِراعْ ” ـ مركب الهروب ـ اشارة للمنقذ
” لتفتحَ درباً – لنوحٍ – جديداً فآدمُ تَاهَ بدَربِ المسالكْ ” ـــ اشارة للمنقذ .
ومن هذه العلاماتِ التي دارتْ بين أساليب الظلمِ في قتل أماني الطفولة وإزهاق الأرواح وإعدام العدالة وبينَ ابْتكار طريقةٍ جديدةٍ لإنقاذِ العالم من البطش ستخرجُ أنواعُ المعاناةِ والحزنِ والقلق ولكن هذهِ المرة ارْتكز التنغيمُ على نغمِ العجم من درجة الــ( دو) رغم أنَّ صورَ الحزنِ والخيبة مهيمنة في النص ، فقد تكونُ رؤية التنغيم جاءت لتسافرَ بهذا الكم من الأسى والظلم فتحولهُ الى أملٍ وطمأنينة في الكوكب الجديد والبعيدِ عن كلِّ هذا الدمار لذلك احتاجتْ الفكرةُ شيئاً من الفرح والحماسة فاخْتارَالمنغِّمُ مقامَ العجم لذلك، لكنّهُ مُطعَّمٌ في انْتقالاتِ الحزنِ والمعاناةِ من نغمِ الصبا زمزم والنكريز والنهاوند والصبا وجمل من الكرد والبيات .
التنغيم :
انتظمَ العملُ على فالتٍ وَاسْتهلالٍ موسيقي من نغمِ العجم على درجةِ الرست وبايقاع …وهي عبارةٌ عن محاكاةٍ لموسيقى ((star wars لأنّها جاءت على نفسِ الأسلوب النغمي والايقاع لعلّهُ أرادَ إحالةَ المستمعِ الى موضوع الكواكب والحرب، كما أن الأغنية لم تكنْ على هيأةِ مقاطعٍ فابْتدأتْ وهي تهيئُ لأمرٍ عظيمٍ جاءَ باستخدام اسلوب التوكيد اللفظي ( بقول ثقيل ثقيل ثقيل ثقيل ) مُصوّراً عظمة حجم المجرات والشموس بأماني الطفولة التي نحسبها صغيرة وهي بالعكس من ذلك،وأن هناك حقولاً للأماني التي طالما راودتنا واسْتحالتْ رغمَ أنّها بسيطة (ورود وشمسٌ وماء وطين)، فكلُّ هذه المعاني جاءت على أمواج نغم العجم الذي يستخدمُ غالباً في الحماسةِ برفقة جملةٍ كروماتيك ( ورود و ….) ومسحةٍ قصيرةٍ من نغم صبا زمزم على الــ (مي) في جملة (رجالاً نساءً) فيستقرُّ لعجم ال(دو) وقد لعبَ مع هذا التصوير الشعري والنغمي المعادلُ المرئي دوراً إخراجياً في توصيل الفكرة .
” سأُلقِي إِليكُم بقولٍ ثقيلٍ
ثقيلٍ ثقيلٍ ثقيلٍ ثقيلْ
ثقيلٍ بحجمِ المجرّاتِ
حجمِ الشموسِ التي عانَقَتهَا
أماني الطُفُولَةِ
مُنذُ اختزَلنَا حُقُولَ الأَماني التي راوَدَتنَا
سنينَاً سنينَاً وما هجَرَتنِي
هُنَالِكَ فِي الأُفقِ مِلءَ الشجونِ
ورودٌ وشمسٌ وماءٌ وطينْ
رجالاً نساءً
أنا لستُ أَدرِي ”
وبعد هذا الاستهلال الحماسي يدخلُ في لونِ الحزن من نغم صبا زمزم على درجة الــ (صول) في ” ولَكِن دَعَاني مُنادٍ حَزينْ ” ويعود لنغم العجم بجملٍ حزينةٍ حتى يستقرَّ عند ( غثاء السنين ).
” رَأَى مَا رَأَينَا وَمَا لَم نَرَهْ
رَأَى مُدناً تصَّعَّدُ روحاً
تُشَيِّعُ قَتلى الحضارةِ حِيناً
وتَشربُ حِيناً غُثاءَ السِّنين”
ويتسامى نغمُ العجم بجملةٍ جديدةٍ من طبقةِ الجواب في ” غثاءً تَرَاكَمَ في (نجزاكي)”
وينتقلُ في جملةٍ قصيرةٍ الى نغم الكُرْد على النوى (صول) ليعطي تصورَهُ شيئاً من الرقة والانْكسار النفسي في حادثة (سبايكر) الشهيرة بجرمها ” وسَالَ بدجلةَ قَيئاً ودمْ ” ويفصحُ المعادلُ المرئي عن لقطاتٍ حقيقيةٍ لعمليةِ القتل الجماعي التي امْتلأ منها دجلة بالدم ! ثم ينتقلُ الحديثُ باسلوبِ التورية عن مُسببِ الدمار وهي الدول التي خبأتْ الأمراضَ السرطانيةَ تحتَ الرمال وهي إشارة

إرسال التعليق