البنفسج بين ياس وطالب والمظفر جدلُ النصِّ ودهشة التنغيم وروعة الأداء

البنفسج بين ياس وطالب والمظفر جدلُ النصِّ ودهشة التنغيم وروعة الأداء

 

بقلم : تحسين عباس

تطرقتُ سابقاً لبعض الأغاني في الحقبة السبعينية التي ازْدهرتْ بها معظمُ الثقافاتِ الفنيةِ والأدبيةِ في العراق ، وطالما كان الحديثُ يتداول بين ألسنةِ المهتمينَ بالواقع الفني بأنَّ ضعفَ الإعلام العراقي حالَ دونَ انتشارِ الغناء العراقي بما يستحقُّ كقرينهِ الغناء المصري؛ وأنا أقول إنَّ هذا السببَ هو أحدُ الأسبابِ وليس جذرَها، فالعراق دولةٌ ذاتُ اقتصادٍ ريعي، جلّ اعتمادِها على النفط وقليلاً من الزراعة والصناعة البسيطة مقارنة بدولة مثل مصر التي تعتمد على الزراعة والفن، فدافعُ الحاجة يبتكرُ الابداعَ وسبلَ تسويقِهِ، مما ولّدَ انتشارَ المسارح في كلّ المحافظات المصرية فضلاً على البناء الثقافي الصحيح للمجتمع المصري،وعوداً الى بدء فلو أخذنا أحد أشهر الأغاني السبعينية وهي أغنية (البنفسج) التي يمكن أن نعدَّها سمفونية الغناء العراقي لتعددِ انتقالاتِها الايقاعيةِ والنغميةِ وطول مدتها الزمنية حيث ناهزت الــ 15.56 دقيقة فهذه الأغنية لو كانت تُغنى على مسارح كبيرة وكان الجمهور يطلبُ أعادة مقدمتها البالغة 4.25 مع الغناء البالغ 11.31 دقيقة ، ثلاث مرات على أقلِّ تقدير، لتراوحتْ مدةُ الأغنيةِ بين الساعةِ وأجزائها ،وهذا ما كان يحصلُ في أغاني أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ! ويلحقُ مثال هذه الأغنية – البنفسج- عدةُ أغانٍ من جيل السبعينيات كـ أغنية ياطيور الطايره وحاسبينك.
أمّا الآن أدعوكم للتفضل الى مائدة (البنفسج) الإبداعية والتي هي من كلمات الشاعر الكبير (مظفر النوّاب) وتنغيم الموسيقار طالب القرغلي وغناء صوت الأرض الفنان الكبير ياس خضر.
الفكرة :
ابْتدأ بناءُ القصيدة بـمَسكِ القارئ من أول مفردةٍ ليكونَ هدفُ الشاعرِ هو القارئ البسيط ، لأنَّهُ يكتبُ دون تكـلـّف لهـؤلاء، فعندما يقول:” يــــا طعـم … ” ستترك هذه المفردة وراءها فـراغاً، يملئُ على المتلقي أنْ يتـأمـّلَ هذا الطعـــم، فيتحرى ذهنياً عن معرفة نوع الطعم وشكلِهِ وماذا سيكونُ القادمُ بعد هذا المعنى، ليكتملَ معنى الطعـم، فجعلَ التـأويلَ مفتوحاً عند القارئ ليختار أوصافَ هذا الطعم قبل إخبارهِ عن التكملة بكلمـةٍ سحريـّة أخـّـاذة، إستوحاها من شكل ورائحة ولون البنفــسج، تلك الزهرة المتألقة في الليالي المقمرة، فاستخدام عبارة ” يا ليلة من ليل البنفسـج” لفتح المخيلة الرقراقة في العاطفة الانسانية ، يتلوها مكرُ الايحاء فيشغلَ بـالَ المتلقي عند ” يا حلم” فأيّ حلم هذا ؟ هو الذي في المنام أم في اليقظة ؟ فهـذه مراوغة مقصودة من الشاعر،ثم يرجع ليباغت المتلقي بالعدم في ” ما مش بــمامش” أيْ لا وجـودَ لهُ على المتناول المادي، فنص البنفسج مثيرٌ للجدل في تناولهِ هل هو نصٌ وجداني أم سياسي؟ لعلاقة عنوان النص باسم مقهى في الناصرية يسمى بـ (ليل البنفسج) أو صيدلية تسمى بالـ (البنفسج)وكلا المكانين هو ملتقى لأعضاء الحزب الشيوعي وقد منعَ النظامُ السابقُ تداولَ هذهِ الأغنية لشيوعها على أنّها رمزٌ من رموز الحزب المخالف له ولأنَّ مقطعَها الأخيرَ يتحدثُ عن حبٍّ إجباري لجمعٍ غائبٍ فلم يجدوا لهُ تفسيراً سوى أنّ الشاعر في قولهِ : (وعـلى حـبـّك.. آنـا حـبيـّت الـذي بحـبـهم لـمتـني) كان يقصدُ بهِ التحالفَ الذي تمَّ ما بين الشيوعيين والبعثيين تحت مسمى عُرف بـ : “الجبهـة الوطـنيـة التقـدمية ” فكلُّ النصِّ مفسَّرٌ وجدانياً الا ما ذكرتُه؛ وبما أنَّ موضوعَ القصيدةِ كانَ فيه من المعاناة والاستكانة والحيرة فقد ارتكزَ اسلوب تنغيمها حول نغم النهاوند من درجة الـ(ره) البوسليك و(الهزام والبيات والراست والبستنيكار والشوق انكيز ).
التنغيم :
تبتدأ المقدمة الموسيقية بجمل من نغم النهاوند على درجة الدوكاه في فالتٍ موسيقي تؤديها آلة القانون مع الكمانات وبعدها يكملُ الأكورديون مع بقية الآلات في دخول متنوع للإيقاعات بين ميزان 4/4 و2/4 ( ايقاع الزفة والوحدة الصغيرة) بنفس نغم النهاوند ( البوسليك) حتى المقطع الأول حين يتحول الايقاع الى الوحدة الكبيرة 4/4 فيفتتحُ الغناءُ عبارتَهُ بــ : ” يا طعم ” التي تترك في المتلقي تـأمـّلاً لهذا الطعـــم (أهو معنوي أم مادي؟!)ويعضِّدهُ تنغيمها واللازمة التي تتبعُهُ حتى يمسكَ بيد المتلقي حين يلحقُ كلمـة” يـا طعم ” بكلمـة سحريـّة أخـّـاذة، إشتقـّـها من شكل ورائحة ولون البنفــسج، ذلك الـزهـر البهي والجذّاب، والمتألق في الليالي المقمرة، لأنَّ استخدام عبارة “يا ليلة من ليل البنفسـج” هو الخيال الرومانسـي المطلُّ على تأملاتِ الروح العاطفية ، والانتقال بها الى فضاءاتِ الهـوى والحـب :
” يــــا طعـم … يـا ليـلة من ليـل البنفســج
يـاحـلم … يـمـامش بمـامـش (ما من شيء)
طـبـع كَـلـبي مـن اطـبـاعك ذهـــــب
تـرخص .. وأغـلـّيـك … وأحـبــــّـك”
* * *
يبقى مقياس الزمن على الوحدة الكبيرة ويتغير النغم الى هزام على درجة الفا كار ديز في : ” آنا متـعـوّد عليـك هــواي( كثيراً)…يا سـولة سكـتـّي ـــ (يا إدمان سكوتي)
يـا طـواريــّك ( يا سيرتك)… من الظلـمــة تجــيــني ” ويتحول الى نغم الصبا على درجة اللا حسيني في ” جـانـن( كانت) ثـيـابي علي غـربـة كَــبل جـيـتك
ومـسـتاحـش مـن عيـونــي وألـّـمتـني….
وعـلى المـامـش ( وعلى الـما من شيء – التضحية – مجاناً )..عوّدتني …عـلـّمتـني..
آنـا حـب هـوايـه كَــبـلك ذوّبــاني” ثم يكرر الجملة الأخيرة بتدرج استقراري على نغم البيات من درجة اللا عشيران لتبتدأ موسيقى ممهدة على نغم البيات من نفس الدرجة جواباً ويلحقها الغناء على نغم الشور بيات المُشرب بالصبا وبإيقاع الهجع في ” إشـلـون أوصـفــك .. وانـت كـهـرب.(حجر باهض يشع في الليل الحالك)
وآنـا كَـمرة عيـني.. دمـعـة ليـل ظـلـمـة! ”
إشـلـون أوصـفـك ..!!
وانـت دفــتر
وآنـي جـلمـه(كلمة)………!!
ثم يتحول في إنتقالته السادسة الى نغم النهاوند على درجة الدوكاه وبإيقاع الوحدة الكبيرة في :
“يـلـّي.. مـاجـاسك(لم يلمسّك) فكـر بالليــل ومجاسك (ولم يلمسك) سـهـر
يـلـّـي بين حـواجـبـك ..غـفـوة نـهـــــــــــــــــر”
ويتحوّل بعد ذلك في انتقالتهِ السابعة الى نغم رست النيشابورك على درجة الدوكاه وبإيقاع المقسوم : ” يـلـّي جـرّة(مسحة) سمــــا بعـينـك
خــاف أفـززهــا ( أفيّقها)من أكَولــّك
آنـــا احـبـّــك
آنــا احـبـّـــك ”
وتأتي موسيقى قصيرة ممهّدة تبتدِئوها آلة الناي لتجسدَ تجنيسَ الحجاز ركوزاً على درجة لا الحسيني بمصاحبة الوتريات التي جسدت نغم الهزام ركوزاً على درجة فا كار دييز عند :
” مامش ابمامش وللمامش يا ميزان الذهب وتغش واحبك” .
* * *
مـامـش بمـامـش….و للـمامش………
يـمـيزان الـذهـب ….وأدغـش واحـبــّـك ”
ثم يأتي فالت موسيقي بشكل قصير جدا يتلوه الغناء بتجنيس الصبا ركوزاً على درجة الحسيني في:
” وارد أكّــلـّك…
فـرنـي حـسـنـك ………… يـابنـفـسـج
وانـتَ وحـدك… دوّخـتني .. يـابنفـسج ” يكررها مرتين ويستمر مع نغم الصبا في:
” وعلى حبك انا حبيت الذي بحبهم لمتني”
وقد تضمنتْ هذه الانتقالة الموسيقية نغم البستنيكار لأنَّ نغم السيكاه تخلَّلَ فيها ركوزاً على درجة الفا كار دييز وجنس الصبا على درجة لا الحسيني جواب.
وعند خاتمة الغناء ينسحب من نغم الصبا على درجة اللا حسيني الى النهاوند بجملة موسيقية موصلة ثمَّ غناء نهاوند على درجة الدوكاه ليُشكل ما يُسمى بنغم الشوق انكيز في :
” يـاطعـم …. يـاليلـة من ليل البنفــسج
يـا عـذر عـذرين.. يـا شنهي واحـبـّك ”
التوزيع :

تفرّد التوزيع الموسيقي لهذه الأغنية بشكل عام في لغة المحاكاة بين الآلاتِ المُنتَخبة :
آلة القانون مع الكمانات / الأكورديون مع الأورك / الكمانات مع الوتريات / الكمانات مع الأكورديون / الناي مع آلة القانون… كما حاكى الأورك بلسان الساكسفون مجاميعَ الكمانات.

الغناء:
بعدما كنّا سويةً نتجوّل في أعماقِ الانتقالات النغمية والايقاعية وكيف كانت تدهشنا بين الفَيْنةِ والأخرى، نجدُ أنَّ مثلَ هذا الغناء صعبٌ في الأداء لتغير درجات الركوز وبشكل غير متوقع، وهذا ما يعطي الأفضلية في الأداء للمطرب الكبير ياس خضر لسيطرتِهِ على انتقال النغم والوزن مع محافظتِهِ على الإحساس بدون تكلّف وتلكؤ.

Previous post

أنطلاق موقع الحلم العربي بالقاهرة ورئيس تحرير الموقع د. مصطفى عمارة: موقع الحلم العربي يجسد حلم كل عربي في تحقيق الوحدة العربية وندعوا كافة التيارات السياسية والثقافية للمساهمة الفعالة بآرائهم في إثراء هذا الموقع

Next post

مؤتمر عبرالإنترنت – خبراء يناقشون إرهاب الدولة الإيراني وسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه طهران تصدر محكمة في بلجيكا حكمها في تهم الإرهاب ضد الدبلوماسي الإرهابي للنظام الإيراني في 4 فبراير

إرسال التعليق