تشكّلات الذات والآخر في البنية السردية، قراءة في روايات هند زيتوني.
كتب-مصطفي عمارة
في أفضية النصوص السردية تحلّق المزيد من الرؤى، ولطالما وجدنا بعض تشكلاتها في مضمار النص السردي، فضلًا عن وجود رؤى متعددة أخرى يجود بها النص، وعلى القارىء النابه أن يلتقطها، ولعل نصوص الروائية( هند زيتوني) ميدان خصب لجود تلك الرؤى المتعددة، إذ تجدها شاخصة في بنية نصوصها السردية، وذلك من خلال شحنها للنص السردي بالأسئلة وتحريكها لبعض المسارات لتشكل من وراء ذلك ملامح جديدة، وبهذا فإن الجنوح إلى الحب والتمسك به رغم الألم هو السبيل الأمثل لمقارعة الصعاب وتحقيق الانتصار، بينما يظل السعي لمدّ صوت الاحتجاج إلى كل مايحزن ليعكّر صفو الحياة هو الآخر يشكّل الهاجس الذي يدعو إلى التغيير.
ويبقى الظل الخفي بين هذين الظلين الضاغطين على ذات الكاتبة (هند زيتوني)، فلقد تماهت مع الواقع المتعب مما جعلت النص يشي بذلك، فقدّمت رؤى حزينة جادت بها روحها المتألمة، وهوالظل المؤمل الذي يكون في عالم آخر بعيد عن المآسي والقسوة والظلم، وهو ظلّ خارج النطاق، وبمجموع تلك الظلال يتشكّل المسار الجديد نحو التفاتات جديدة وتعبيرات واقعية تلتقي فيه كل الوشوم وكل الضغوطات بوصفه عالمًا وإن كان موسوما بتعبيراته الدالة على العتمة والحزن لكنّه يفضي إلى عالم من نقاء الذات التي جعلت من نفسها واقعا آخر في قبالة هذا الواقع المرير.بضعة أیامٍ فقط، مضت على وصول «محمود» من بلد الحرب (سوریا) وقریته التي تطل على البحر، حیث ترك وراءه سماءً تشتعل بالدخان وقلوبًا متعبة من الخوف والجوع والفقر، والیأس والانتظار. مازالت تتداعى في مخیلته ملامح أسرته الباهتة التي لم تتركه ولا لحظة، ووجه أمه العجوز(أنثى بطعم النبيذ، 9)
فهذه الحياة الواقعية البائسة والمحزنة دفعت بها إلى أن تشكّل المعادل الروحي والنفسي لما يعتلج في داخلها من نوازع ومتناقضات ومشاعر صادقة تبحث عن وطن خال من الأعراف الرجعية التي تأخذه إلى حيث الخرافات والعادات الدخيلة الممجوجة، ولذا فهي تبحث عن حلم خارج الواقع يمنحه البقاء بدلًا عن الموت الحقيقي، فقد تأبط الوطن قهراً لا طائل منه، بسبب حماقات بشرية ألقت عليه بظلالها المعتم.
وبهذا فإن مسارات الكتابة قد انتهجت مسارًا يحب الحياة والحرية ويأبى الموت، وهي تميل إلى اقتناص فرص الحياة لتمنح الواقع حياةً أخرى.
كذلك كانت بعض الرؤى السردية تبحث عن غايات إنسانية لتجعلها في كلّ مكان كي تكون بديلًا عن قصة النزوح الأليم .
لقد حملت القصص مضامين جميلة تميّزت بعذوبتها وتصويرها البليغ لحياة النازحين عن الحياة قسرًا بفعل فاعل لتشترك معها الوعود الكاذبة المؤجلة التي جعلت الإنسان يهجر دياره، وباتت أحلامه محصولًا للنار وكأنه مرتهن في بيت الأسى دائما.
وتبقى حكاية الجرح واضحة، والكاتبة ببراعتها أتقنت تفاصيل الواقع المؤلم عبر إيصال الخبر الى غاية المعنى.
كل ذلك حملته الذاكرة السردية لتجعل النص مفعمًا ب (الذاكرة الحيّة) ولن تجعل النص منتميًاإلى (ذاكرة العدم)
وعندما صار الوصل شبيها بالمستحيل، وانعدمت سبل التواصل أقامت الكاتبة وشائج هذا الاتصال وأثبتت أن الساعي إلى الحياة لا تنتهي به السبل دائما إلى الفراق، وهذه المفارقةالجميلة بين أن تعقد الوصال بين الحياة وفراقها مرهونة بالإرادة التي تدعو للحياة نفسها، فالوصل لايتحقق، والغربة النفسيةتتسع اكثر فأكثر، والاحتمالات متعددة لكنها لم تجعل الأحلام إلا لتأخذ مسارها في الواقع، بل حتى استعاراتها الجميلة التي وضعتها في شخصياتها وضمنتها الأحداث توحي بالمعنى لحمل قضايا إنسانية وقومية ووطنية ووجدانية تعد انعكاسًا لروحٍ تواقة تسعى إلى إحداث تغييرات واقعية في الواقع المجدب لتحوّله إلى عالمٍ أكثر وضوحًا من خلال التقاط الصور والومضات الشعورية وانعكاس الحال الواقعية على نفسها الشفافة وروحها الخلّاقة لكلّ ماهو جميل، وهي لم تكتب عن معاناة ذاتها فقط بل حاولت ان تسقط الألم على كل ماهو مأساوي حوّل واقع الحياة إلى مزيد من المعاناة، مما يستدعي كل نظر وبصيرة لرؤيته بتمعن، فكانت لديها ذات مندغمة بذات الجماعة وتلال من الهموم المكدّسة، لتؤرخ انحدارات الروح وانكساراتها، فكانت تعبّر تعبيرًا واعيًا عن الألم أينما كان وحيثما حلّ، والدافع لذلك كلّه هي الرسالة الإنسانية، وحريٌّ بها أن تضع يدها على الجروح وتقترح مما يستدعي الحلول( فمن یعید للسماء زرقتها بعد أنْ حقنها أحدهم بدخانٍ ونار؟ ومن یعید للصبح بهاءه بعد أنْ رحلت العصافیر والأقمار؟ وكیف سیعید للقهوة نكهتها بعد أنْ سُكبت على الملح والدم؟ وكیف سیعید للقبرات مشیتهابعد أنْ مُنعت من التجوال في وضح النهار؟!(أنثى بطعم النبيذ، 14)
لقد وشمت الكاتبة نصوصها بالغربة القسرية التي جاءت من محيطات الحزن لتلتقي في مضمرات رؤاها، ولعل الحزن والموت بسبب الحرب الكونية على سوريا وتداعياتها هما من أفضيا إلى ذلك، وتعدد الضحايا وكثرة التشرد والحرمان والجوع والفقد الدائم والخوف هي من وصفت حال المنكوبين في شعب ضحى الكثير وخسر الكثير وعانى الكثير في ظل حرب شعواء تكالب عليها أرباب الظلم والغزاة و تصارع الانتهازيون ومجرمو الحرب الذين تاجروا بآلام الشعوب المنكوبة على العدوان والفتنة.
وتظل الازمة مستمرةً في ظل المواقف الموبوءة بالخيانات، فخيبة الخيانات والحرب الكونية دفعت الكاتبة إلى إيجاد معادل روحي يستوعب الفائض ويحقق مطامح الروح الجامحة نحو ماهو أفضل بعيدًا عن الهموم والأحزان والظلم والقنوط، ولطالما سعت نحو عوالم يختفي منها الظل ويسود فيها وجه واحد مشرق بالنور والنقاء،راغب بالحب والمطالبة به رغم تفشي الألم وكثرة المنغصات و حلول القنوط، لتأخذ ذلك كله
الى عالم من الحب خالٍ من الشوائب والدرن، وإلى واقعٍ جديدٍ يحفر مسربًا في روحها ويرسم وشومه على ذاتها الحزينة الشفيفة المستشعرة لكل ألم حولها، وفي ذاتها هناك من يترك أثره العميق في روحها فهي تترجم قصة الألم الذي أثّر في نفسها ولم يُبقِ على شيء من ملامحها سوى الحلم الذي ترجوه أن يكون واقعًا. فكم نحتاج للمفاجآت الجميلة في وقت كثرت فيه الحروب والمجاعات والأحداث الاجتماعية والتقاليد البالية التي تقلب حياتنا رأساً على عقب.(بوح النساء ، 15)
في صدر كل منا رواية تركت بصمتها على جدران قلبه، ولكن هذا لا يعني أن نيأس، ونعلن استسلامنا وهزيمتنا، يجب أن نكون أقوياء، ونقف في مَهَبِّ العاصفة، ولا مانع أن نتحول إلى بركان لنحارب كل ما نراه خطأ، ونمنع حدوثه بكل قوة ممكنة. وعندها فقط نكون قد حققنا جزءاً بسيطاً من أحلامنا، وبدأنا أول خطوة صحيحة في طريق النجاح. (بوح النساء ، 29)
ولطالما سعت إلى ترميم الذات باجتهاد دائم نحو ماهو أفضل عبر كفاح دائم وان فقد المساندة الحقيقية في التغلب على ألمه منتزعًا بإرادته الصلبة واقعًا جديدًا.
لذلك وعبر هذه الرؤى كشفت الروايات عن الجوانب النفسية والروحية والوجدانية التي انطبعت في ذاتٍ ترجو الخلاص من واقعٍ مفروض إلى واقعٍ مركزه الانسان، لذلك تعالق الهم العام بالذاتي ليعبر عن حمل حقيقي لرسالة إنسانية باتجاه النقاء والبحث الدائب عن الحب اينما وجد وعن الحياة اينما حلّت.
والبحث عن الجمال الناهض عبر الاتكاء على الحضارة والتعويل على الإنسانية في فرز عوالم حقيقية من الصفاء والمحبة.
ويبقى لوشوم الظل الفضاء الأرحب والممتلىء بالدهشة بسبب إصرار الإنسان على العيش في ظل واقع يغشاه الظلم، وتمجيد السلطة الغاشمة والرضا بالعيش تحت قيود الاستعباد، وفي قبالة ذلك أضاءت الكاتبة الأوجه الأخرى لتثبت للمتلقي ميلها نحو اختيار الحرية وان يكون الانسان بعيدًا عن القهر.
كذلك كان للبوح تشكلاته ودلالاته في نسيجها السردي ولاشك أن من يتصفح المضمون السردي الذي تضمنته رواية الكاتبة السورية المغتربة (هند زيتوني ) والصادرة عن دار النخبة المصرية للطباعة والنشر والتوزيع يجد أن أحداث الرواية قد توزعت على 250 صفحة من القطع المتوسط بواقع 23 فصلا ..
ولن ينتهي القارئ من قراءتها إلا وقد جاد برأيه أن المضمون السردي يرتقي إلى إعلاء الذات المبدعة لمستوى الإنسانية ، فالكتابة في بعض تفصيلاتها إنما تقصد إعلاء للذات التي تشترك مع الذوات الأخرى عبر وعي جمعي مكنون في اللغة التي اشتغلت عليها الروائية ، لذلك تحركت كتاباتها خطوات متقدمة أضيفت إليها التقنية الفنية واللعبة اللغوية والمهارة في صوغ الموضوعات، حتى مال السرد في شكل نسيجه نحو المعرفة وبيان أثرها الدال، التي تقف اليوم أمام البحث في الكشف عن المصادر الحقيقة التي تتلو الإبداع ، ولعلنا بذلك نجد ما يكرّسه الوعي السردي في إحداث انعطافة مهمة على مستوى جدة الحبكة السردية ومآلاتها الدالة
لذلك فالدراسة لا تقصد الا الكشف عن وعي الكتابة،
والبوح هو الترجمة الحقيقية لتلك الأفكار والرؤى لتبوح المدونة السردية عن تلك المآلات بطرق مختلقة لتُشعر القارىء أنها على مقربة من ملامسة مشاعره وأحاسيسه.
لذلك أفصحت الكتابة الإبداعية عن شروعها المتميز في الكتابة وكذلك تكشف عن تمكن الروائية من أدواتها الكتابية زيادةً على اللغة الدالة والوعي الذي يترجم تفصيلات السرد ومضمراته، كذلك إنما يترجم عن ثقافة حاضرة عامة وخاصة لذاكرة الروائية وهي تنسج هذا السرد فضلا عمّا امتاز به موضوع الرواية ..
لقد كشفت الرواية عن تسلسلٍ مقصود يراد به أن تنتظم أحداث الرواية وفصولها في خيط ناظم يجمعهما بشكلٍ خفي.
لذلك كانت أغلب الأحداث تكشف عن وعي قصدي جادت به الذاكرة السردية، ومن مسوغات هذا الانتظام أن بطلة الرواية نادية تلتقي بكريم في مطار دبي على طريق المصادفة لتتلو أحداث روايتها بشكلٍ موضوعي ومن هذا الحدث المنطقي تنطلق رؤية الراوي العليم الذي يجود بأحداث ومجريات الروي لتبوح البطلة / الرواية / المؤلفة بكل ما يختلج صدور النساء من مشاعر وأحاسيس وعواطف وأمنيات تسعى لتحقيقها والمطالبة بتثبيت حقوقها الطبيعية في الحياة كإنسانة وأم وأخت وزوجة وحبيبة ،هنالك رسائل عدة ستقول بها النساء من خلال رواية ( بوح النساء ) ..
التي تدعو إلى مناصرة الحق لتنطلق الصرخة الأولى له من النساء والأطفال يرددن لا للعنف والاضطهاد وأن يتحقق العيش الكريم للانسانة التي قدمت الكثير من أجل الآخر وقد آن الأوان أن يصدح صوتها بالاستقلالية.
ولعل مما يحسب لمضمون الرواية أنها تطارد الطغيان وتسلط الأضواء على عتمة الظلم التي أرادت للمرأة أن تعيش في ظل حكم عبودي، ولعل ما حصل في أتون الحرب في مناطق النزاعات وحصرا في العراق وسوريا واليمن وليبيا، يكشف بجلاء القهر والظلم الذي اقدمت عليه عصابات داعش الإجرامية ومن كان يقف خلفها، وبهذا فإنّ التعالق النصي بين الذات والآخر هو ثيمة جمالية إذ”إن الرواية العربية في بداية الألفية الثالثة يسكنها توجه جمالي مختلف، قوامها إنصات مرهف للذات وسبر لأغوارها، ومساءلة تشظياتها، وآثار ذلك على الهوية في عالم مفتوح، لا يكف عن التغير والتبدل بوتيرة متسارعة”.
إن ما يترشح من الرواية ثمة لقاء بين نادية وكريم ينجم عنه بوح لمشاعر إنسانية صادقة، عمدت الروائية الى جعل النص السردي يأخذ مساره في البوح، لذلك تذكر:
تقول نادية : كنت ضمنا أشعر بسعادة غامرة ، وكنت أنا المحظوظة من بين المسافرين !
أسرت لنفسي بلحظة وأنا أرتعش من الداخل هل يعقل هذا ؟ والقدر يرتب لي موعدا معه على الفور بعد كل تلك السنين ..؟
يا الهي … يجب أن أبدو طبيعية جدا لكي لا ينتبه.؟
ليأخذ هذا البوح الأول ترانيم أخرى على قارعة طريق البوح الثاني والثالث و…
حتى يصل إلى أعلى خطواته الكاشفة عن مضمرٍ له أن يتسيد في واقع يرفض ولادته.
وبهذا فقد جسّت رؤيتها معالم الهوية وأثبتت وجود الألم في قبالة انبعاث الثورة، لذلك ركّز النص السردي على ظلال المنطقة المعتمة، موضحةً ما أندغم فيها من تشظيات ورؤى أسهمت في بلورة قوى داخلية بوسعها أن تحرك القوى الخارجية، ليسيرا معا في حركة دائرية تبدأ من المالانهاية وتنتهي بالمالانهاية، حتى أكمنت تلك اللحظة في المالانهاية، وبهذا وسمت نصّهابالتأمل، ووشّحته بالحقائق الفلسفية لتعبر عن كينونة الأشياء.
إرسال التعليق