مهزلة سد النهضة
لم يكن تفكير أثيوبيا لإقامة سد على النيل وليد اللحظة بل بدأ منذ سنوات طويلة وقوبلت محاولات أثيوبيا لإقامة هذا السد برفض مصري قاطع وتهديد باستخدام القوة في حالة إقدام أثيوبيا على تلك المحاولة وجاء أقوى ردود الفعل من الرئيس الراحل أنور السادات وكان وقتها في السودان إبان حكم الرئيس الراحل جعفر نميري عندما حاولت أثيوبيا إقامة هذا السد فكان رد فعل الرئيس المصري وقتئذ أن الطائرات المصرية البعيدة المدى سوف تضرب أي محاولة اثيوبية لإقامة هذا السد لأن مياه النيل خط أحمر واستخفت أثيوبيا بتلك التصريحات وبدأت الإجراءات العملية لاقامته عندما احتجت مصر نفت أثيوبيا إقدامها على تلك المحاولة فما كان من الرئيس المصري إلا أن نفذ تهديده وقامت الطائرات المصرية بدك السد وعندما احتجت أثيوبيا ردت مصر أن أثيوبيا نفسها أقرت أنه لا يوجد سد ، وعندما اندلعت ثورة يناير حاولت أثيوبيا تكرار محاولاتها في عهد الراحل محمد مرسي وعقد مجلس النواب المصري جلسة علنية طالب فيها النائب السابق أيمن نور بضرب سد النهضة واثيرت وسائل الإعلام لمهاجمته بدعوى أن ذلك يسيئ للعلاقات التاريخية مع أثيوبيا ، وعقب نهاية حكم الإخوان ومع بداية الإعداد لتولي الرئيس السيسي السلطة أجريت حوار مع د. هيثم الخطيب رئيس ائتلاف شباب الثورة والذي أدلى بتصريح خطير أكد فيه أنه حصل على معلومات مؤكدة أن الولايات المتحدة سوف تدعم نظام السيسي في مقابل السماح لأثيوبيا ببناء السد وكان يمكن أن تكون تلك المعلومات مغلوطة إلا أن الأحداث أضفت مزيد من الشكوك حولها فبعد تولي الرئيس السيسي السلطة تحدث الإعلامي المصري توفيق عكاشة على أنه التقى بالسفير الإسرائيلي بالقاهرة وأن السفير تقدم بعرض بمساعدة مصر في حل مشكلة المياه مع أثيوبيا مقابل إمداد إسرائيل ب5 مليارات متر مكعب لزراعة صحراء النقب وكان الأمر مثير للغرابة في كيفية السماح للإعلامي المصري للالتقاء بالسفير الإسرائيلي وعرض هذا الموضوع وهل حصل هذا الإعلامي بضوء أخضر من المخابرات لمفاتحة إسرائيل في هذا العرض إلا أن هذا الموضوع أغلق بعد إغلاق قناة الفراعين التي أدارها توفيق عكاشة ، ومع استمرار المراوغات الإثيوبية عقدت مفاوضات سياسية بين كلا من مصر والسودان وأثيوبيا إنتهت بعقد اتفاقية المبادئ عام 2015 ورغم أن هذا الإتفاق وضع أساسيات التفاوض إلا أنه لم يقرنها بإجراءات ملزمة لإجبار أثيوبيا على تنفيذها كما لم يتضمن الإتفاق تحديد سقف زمني للمفاوضات واعترف الإتفاق بحق أثيوبيا في إقامة هذا السد ورغم ثغرات هذا الإتفاق واعتراف كلا من مصر وأثيوبيا بحق أثيوبيا في إقامة هذا السد وكالعادة انبرت وسائل الإعلام في التهليل لهذا الإتفاق رغم تلك الثغرات التي استغلتها أثيوبيا في المراوغة لكسب الوقت للقيام بالملئ الأول للسد وعلى الرغم من تأكيدات الرئيس السيسي أن مصر لن تقبل القيام بأي إجراء أحادي ولن يستطيع أحد أن ينتزع شيئ من فم الأسد إلا أن أثيوبيا أقدمت بالفعل على الملئ الأول دون أي رد فعل مصري سوى رفض تلك الخطوة والتأكيد على تمسك مصر بالمسار الدبلوماسي والتأكيد على أن مصر لا ترفض إقامة أثيوبيا لهذا السد وحقها في التنمية ولكنها تطالب فقط بإتفاق ملزم يحفظ حقوق مصر التاريخية في المياه ، ومع استمرار المفاوضات دون تحقيق أي تقدم أصبحت هناك حقيقة لا جدال فيها أن المفاوضات بهذا الشكل عديمة الجدوى وجاءت الفرصة لمصر عندما انسحبت أثيوبيا من مفاوضات واشنطن وأصدرت الإدارة الأمريكية السابقة بيانا حملت فيه أثيوبيا المسئولية وأن مصر من حقها استخدام كافة الخيارات لحفظ حقها في مياه النيل وكالعادة فوتت مصر تلك الفرصة واستمرت المفاوضات تحت رعاية الأتحاد الأفريقي الذي ثبت عدم جديته وقدرته لحل الأزمة وانحيازه للجانب الأثيوبي الذي زاد من تعنته بعد أن تأكد أن كلا من مصر والسودان ليست قادرة على منع أثيوبيا من الاستمرار في مخططها نحو الملئ الثاني للسد خاصة أن هناك انحيازا من الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة التي أعلنت رفضها استخدام القوة لحل تلك المشكلة فضلا عن الدعم المستتر الذي تقدمه إسرائيل لأثيوبيا من خبراء ودعم عسكري لإجبار مصر في النهاية على بيع مياه النيل لإسرائيل وبالفعل أقدمت أثيوبيا على الملئ الثاني للسد وتقلصت فرصة الخيار العسكري للأزمة مع مرور الوقت ، وجاءت جلسة مجلس الأمن لتختم تلك المهزلة التي عشنا فيها منذ سنوات بتخاذلنا وتراضينا في الدفاع عن حقوقنا المائية وأعاد مجلس الأمن القضية إلى نقطة الصفر بالدعوى لاستئناف المفاوضات التي لم تحرز ولن تحرز أي نتيجة تحت رعاية الأتحاد الأفريقي وتم التهليل كالعادة من جانب سحرة فرعون لكلمة وزير الخارجية المصري والتي اعتبرتها انتصارا لمصر رغم الهزيمة التي لحقت بنا عندما استطاع الجانب الأثيوبي فرض إرادته في عدم إتخاذ مجلس الأمن إجراء حاسم ضد أثيوبيا بل أعطاها فرصة لاستمرار مراوغاتها عبر مفاوضات لا جدوى منها تحت رعاية الأتحاد الأفريقي الذي ثبت فشله في حل الأزمة ، ومن الغريب أن يهلل سحرة فرعون لما قام به الرئيس السيسي من قيامه بجولة عبر دراجته الهوائية في العلمين أثناء المفاوضات باعتبار أن ذلك يعطي ثقة للمواطن المصري أن مصر ليست قلقة من أي شيئ في الوقت الذي تصاعد فيه الغضب الشعبي المكتوم والقلق على مصير مياه مصر التي تشكل عصب الحياة للمواطن المصري وأصبح هناك إجماعا على ضرورة وقف تلك المهزلة ومحاسبة المسئولين عنها ليس فقط في قطاع المياه بل في العديد من القطاعات التي تولاها وزراء فشلة ليسوا جديرين بتولي مهام قطاعات حيوية تشكل مستقبل مصر كوزير التربية والتعليم الذي وضع نظام تعليمي فاشل قضى فيه على مستقبل التعليم في مصر ووزير الصناعة الذي قام بتصفية مقدرات الشعب المصري وباع مصانع رئيسية كالحديد والصلب كانت تشكل إلى فترة قريبة عصب الاقتصاد المصري وشرد العمال ووزير النقل الذي تعددت حوادث القطارات في عهده ملقيا المسئولية على جماعة الإخوان دون أن يضع حلول جذرية لهذا النزيف المستمر الذي يحصد كل يوم أرواح المئات من المواطنين وبدون تلك الوقفة ومحاسبة المسئولين الذين اضاعوا ثروات مصر ونهبوا مقدراتها فإن حجم الغضب الشعبي سوف يتزايد يوما بعد يوم بما ينذر بحدوث ثورة قادمة سوف تحصد أمامها كل شيئ وعندئذ لن ينفع الندم ولن تجدي الدموع .. اللهم ما بلغت اللهم فأشهد .
مصطفى عمارة
مدير مكتب جريدة الزمان الدولية بالقاهرة
إرسال التعليق